الرئيسية اراء ومواقف نبضات طفولة مغتصبة

نبضات طفولة مغتصبة

كتبه كتب في 18 سبتمبر 2020 - 14:18

بقلم: عبير الشارف

“عُثِر على جثتي بمحيط سكني، فأقبل الناس نحوي، بخطوات متعجلة و لكنها مترددة، بعيون ملأى بالصدمة، أسى لا يزال في أطواره الأولى، و حزن لم يستقر عميقا بعد.. غير أنني وقتها كنت رحلت، و لم أستشعر حتى وقع أقدامهم و لم أسمع أصواتهم لتؤنسني وسط كل ذاك الظلام..

لم أكن لأوافق -رغم صغر سني- على أن يكون الكلام علي بصيغة الماضي. إذ أن مجرد التفكير في ذلك يشعرني بالانهزام و الضعف، و هذا ما لا أريد أن أشعر به في هذا العالم، فلطالما  كنت طفلا قويا ذي صوت و أحلام و آمال.. لا، بل أنا أصر على استخدام صيغة الحاضر، و إن بت أدرك إدراكا يبعث الكآبة في نفسي أن قلبي توقف عن الخفقان، و أن أنفاسي انقطعت على حين غرة، و أن لا فائدة من إنكار فقداني، اشتياقي، عذابي و وفاتي، غير أنكم تسمعون صوتي و صراخي اليوم ، تسكنكم روحي، و قصتي تتكرر و يعيدها الزمن في قصص أطفالكم..

أنا حاضر في كل تفاصيلكم و لن تنسوني.. 

مع أن قلبي توقف، فقد ظل دماغي يقاوم، و كأنه يقاتل حتى النهاية.. انتعشت ذاكرتي انتعاشا كبيرا، تجمع أجزاء من حياة من أحد عشر عاما، تسرع باتجاه النهاية، فتذكرت أشياء و لحظات اعتقدت أنها ضاعت منها للأبد.. فراحت موجات سريعة من الذكريات تمتزج ببعضها لتختصر لي عمرا اقتصر في طفولة لم تكتمل، ليهرع لتمرير شريط ذكرياتي أمامي و أقف أنا كمشاهد أتفرج؛ تذكرت لحظات عديدة لم أتوقعها حينها. كانت أول ذكرى مرت بعقلي هي فرحة يوم ولادتي التي انتظرها والداي لثمان سنوات، رأيت فيها نفسي في مرحلة الرضاعة، و كيف كانت السعادة تتطاير من أعينهم، تذكرت أيضا اصطحاب أبي لي أول يوم دراسة، تشجيعاته و تحذيراته، خوفي و توتري حين إذ، يوم تعرفت على صديقي المقرب في رحلتنا المدرسية،  يوم تعلمت ركوب الدراجة بعد محاولات باءت كلها بالفشل، يوم سددت أول هدف بنادي الكرة، يوم عرض مسرحية آخر السنة … و غيرها، كل شيء، كل اللحظات المميزة بفرح أو حزن، كل ما عشته جعلني أبتسم و أضحك لجماله و بساطته، لبراءته و عفويته..، إلى أن تذكرت آخر ما حدث معي، آخر يوم لي و أنا متوجه للصيدلية، حينما طلب مني جارنا أن أدله على مكان قريب، بحكم أنه جديد على الحي، كنا نتبادل أطراف الحديث إلى أن استدرجت لمكان لم أزره من قبل، ما أتذكره وجهي الجامد المتلبس المتقلص، صوت ضربات قلبي العالية و السريعة، صراخي المدوي و بكائي الذي لا يتوقف، آلامي، رجواتي أن يكون كابوسا و أستيقظ بعده، نداءاتي لوالدي.. آه كم ناديتكما مترجيا النجدة.. مترجيا أن يتوقف كل هذا.. كل هذا الألم و القرف.. و أعود لحضنكما.. تمنيت الموت حينها، غير أن الحصول عليه لم يكن بهاته السهولة، فقد عانيت و تألمت كثيرا..، بكيت كثيرا.. و عذبت أشد ما يمكن لطفل أن يعذب.. ثم زارني الموت متأخرا..

و ككل الأطفال في سني، لم أتخيل يوما أن حياتي قد تنتهي هكذا، بسرعة و بهاته الطريقة الموحشة البشعة. غير أنه و إن كان موتي فرديا -و نحن نقر أنه لا تأثير للموت الفردي في نظام الأشياء غالبا، إذ تواصل فيه الحياة مسيرتها كالسابق، بوجودنا أو من دوننا-  فالأمر مختلف هاته المرة.. سيحدث موتي فرقا، إذ سيصرخ الكل جماعة ليسمع من جميع أنحاء العالم، سيرخي الخوف سدوله و ستسقط الواقعة على كل فرد و بيت، على كل طفل و ولي، عليكم كلكم.. ستقل الثقة، قد تنعدم في الغرباء، أو حتى في الأقارب و الجيران.. إذ سيتعامل الكل بمبدأ ” الكل وحش حتى يثبت العكس” بعدما كانت ” الكل خير حتى يثبت العكس”.

اسمي عدنان، و هذه نهاية حياتي غير المتوقعة: مغتصبا، مختطفا، محتجزا و معذبا، ثم مرميا في محيط سكنه.. و هي قصة لملايين من الأطفال الآخرين الذين لا نعرف أسماءهم، و لا أين هم، أحياء معذبين أم لقوا حتفهم..، غير أن فرضيات ما حدث و يحدث لهم، نبض مقربيهم نتخيلها بسلاسة، و نرعب لهولها من قسوة و وحشية..”

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *