الرئيسية اراء ومواقف تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم عبر العصور

تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم عبر العصور

كتبه كتب في 29 أكتوبر 2020 - 16:33

لا تزال تلك العلاقة المعقدة والمركبة بين الجميل والجليل بين الابداع والمقدس بين الفن والدين تثير عقول الباحثين ونظر الدارسين وتوجس الوعاظ، وارتباك المتلقين، إلى حد إدانة الأول أو تحريمه أو تقليص حدوده لحساب الثاني، مقابل تطويق الثاني أو عزله لحساب الأول دون حدود، أو البحث عن أشكال من التوفيق بين الإثنين، وكأنها على طرفي نقيض، وهكذا صار الالتباس عنوانا دائما لتلك العلاقة التاريخية الآنية، على الرغم من تغير الزمان والمكان.

عندما ظهرت الديانة المسيحية طلبت الكنيسة من الفنانين ان يقوموا بترجمة الإنجيل على شكل رسوم ولوحات دينية تمثل مشاهد مختلفه للسيد المسيح ومريم العذراء عليهما السلام والقسيس والرهبان وغير ذلك لأن الناس في ذلك الوقت كانت لا تعرف القراءة والكتابة وأن خير وسيلة لشرح تعاليم الدين هي الرسم، وما زالت هذه التقاليد سائرة حتى يومنا هذا، ولكن الإسلام لم يتخذ الفن وكوسيلة لشرح تعاليمه وأن يكون في خدمته كما هو عند أهل الكتاب وإنما الفن في الإسلام هو عبارة عن شيء روحاني فلسفي وجداني يعبر عن الحقائق المطلقة.
إلا أن تصوير النبي محمد صلى الله عليه وسلم كرمز من رموز الإسلام ظهر منذ عصور قديمة، حيث أن كتب الثرات القديمة تزخر بصور ورسومات تصور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والصحابه وآل البيت لكنها في أغلبها كانت تصوره وغلالة بيضاء تغطي وجهه، وكلما تقدمنا في الزمن نجد أن تصوير النبي يتحول إلى الرمز إليه بسحابة بيضاء أو زهرة، وبعض الرسامين كانوا يصورون النبي محاطا بلهب ونار ليعبروا عن قدسيته، وهذا يماثل فن الايقونوجرافي المسيحي من خلال الهالة التي ترسم حول المسيح والعذراء والقديسين، فكتاب “مقتل آل الرسول” الذي يرجع إلى أواخر القرن 16 والذي عثر على نسخته ببغداد، إذ أن هذا الكتاب يحمل صورة للنبي صلى الله عليه وسلم وسيدنا علي كرم الله وجهه، وعلى حجره يجلس الحسن والحسين رضي الله عنهما.
كما أن كتاب “سير النبي” أسطنبول 1595 يحمل مجموعة من الرسوم تصور الرسول على جبل حراء أو عند الكعبة، كما يحتوي على رسم يمثل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصور أخرى للنبي والملك جبريل الذي رسمه الرسام بجناحين، وصور أخرى تمثل الرسول يركب البراق.. لكن الغريب هو أن الرسومات الأقدم للرسول كانت تظهر وجهه، حيث أن الكتب القديمة مثل كتاب “مجمع التواريخ” 1425 الذي عثر على نسخة منه في حيرات بأفغانستان وكتاب “بستان السعدي” 1514 لسلطان محمد نور الذي عثر على نسخته ببخارى بأزبكستان، وكتاب “الطبقات الكبرى” حوالي 300 هجرية تحتوي على رسوم تبين ملامح الرسول في مواقف عديدة كنزول الوحي وصور أخرى للنبي وهو على متن البراق في رحلته إلى السماء أو عند سدرة المنتهى.
ولعل اهتمام الغرب والرسامين الغربيين بتصوير النبي محمد صلى الله عليه وسلم ظهر من خلال كتب تناولت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والتي اعتمدت على تصويره على أغلفتها إلا أن كل هذه الرسوم القديمة كانت تبدي نوعا من الإحترام لشخصية الرسول وقدسيته الدينية، لكن أقبح ما يمكن أن تراه من تصوير للرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق فهو كتاب صدر سنة 2001 وهو عبارة عن رسوم كاريكاتيرية للأطفال تسخر من آيات محددة من القرآن الكريم وأحاديث المحددة، وهو كتاب “آمن به وإلا!” وكاتبه يدعى عبد الله عزيز صدر في الولايات المتحدة عن دار نشر تداعى كريسلت موون بابليشارز، وعلى الرغم مما فيه وقاحة وتطاول وسخرية من عقائد المسلمين وقرآنهم وملة نبيهم، بل وتصوير فاحش للنبي والسيدة عائشه والصحابة بل وحتى الذات الإلهية التي صورها على أنها هلال يجلس على كرسي يسجد له محمد، فإن الكتاب من أوله إلى آخره عبارة عن رسوم كاريكاتيرية تصور القصص التي رواها القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وكل كاريكاتير مصحوب برقم السورة أو الآية أو رقم الحديث.
في أعماق أرشيف صحيفة “نيويورك تايمز” القديم، قبل عصر الالكترونيات، حيث يتم الاحتفاظ بالقصاصات والملفات، يوجد ملف يحتوي على صورة منمنمة للملاك جبريل يظهر للنبي محمد، وقد استخدمت في مقالة عن الإسلام عام 1974 وعلى ظهر السورة نسخة من تعليق لرئيس التحرير، نشر بعد يومين من نشر الموضوع قال فيه “بما أن تجسيد هذا التشابه يمثل إهانة للمسلمين، فإن” التايمز” تعبر عن أسفها لهؤلاء الذين أهينوا بسبب استخدام هذه الصورة”.
إذن الضجة حول الرسوم الكاريكاتورية للرسول التي نشرت في صحيفه فرنسية ليست بالأمر الجديد، وفي الحقيقة فإن تصوير الرسول الذي أثار أزمات في الماضي كان تعبيرا عن الإعجاب، وبعد ثلاث سنوات من واقعة المنمنمة الفارسية ظهر فيلم” محمد رسول الله” وسرعان ما تعرض الانتقادات من قبل النقاد ووصفه الناقد “ريتشارد ايدر” في صحيفة نيويورك تايمز بأنه “أخرق بشدة” ويصل طول الفيلم الذي اخرجه المخرج السوري مصطفى العقاد، ثلاث ساعات، وهو من تمويل كل من الكويت وليبيا والمغرب، وقد تحايل الفيلم على مشكلة تصوير الرسول بعدم تأدية ممثل للدور، ولكن برؤية الأحداث عبر نظره.
ولكن لم يعجب ذلك الجميع، ففي واشنطن استولت مجموعه إسلامية على عدة مباني وقتلوا وأصابوا 13 شخصا آخر وأخذوا عشرات من الرهائن، وكان من بين مطالبهم إلغاء عرض الفيلم، وهو ما كان، وفي منطقة نيويورك ألغي عرض الفيلم بعدما تلقت دور العرض التي تعرض الفيلم تهديدات، كما تم إلغاء توزيع الفلم على مستوى الولايات المتحدة، وخلال العرض الأول في سينما ريفولي في مانهاتن في نيويورك، توقف عرض الفيلم في اللحظة التي غادر فيها الرسول مكة في طريقه إلى المدينة وقد غادر 425 شخصا كانوا في دار السينما، طبقا لما نشرته نيورك تايمز.
وربما أطول الأعمال التجسيدية وأقلها انتباها، هي تمثال الرسول، الذي يصل طوله إلى ثمانية أمتار على سطح مقر محكمة الاستئناف في ماديسون سكوير في قلب نيويورك، وقد شيد المبنى في بدايات القرن العشرين. والرسول واحد من عشرة من أصحاب الشرائع من بينهم موسى وكونفشيوس والإمبراطور الروماني جوستنيان والملك إلفرد الكبير، بالإضافة إلى شخصيات رمزية تمثل السلام والحكمة والعدل والمواسم الأربعة، ويصير مجموع التماثيل إلى 21 تمثالا.
وقد تم الكشف عن هويته بعد أكثر من خمسين سنة عندما ألغت وزارة الأشغال العامة مشروعا تصل تكلفته إلى 1,2 مليون دولار لإصلاح التماثيل وتنظيف المبنى، وإضافة خمس طوابق جديدة، في الوقت الذي توجه فيه سفراء إندونيسيا وباكستان ومصر إلى وزارة الخارجية للمطالبة بإزالة التمثال، وقد وافق القضاء ليفقد التمثال مكانته فوق الركن الجنوبي الغربي للمبنى، وقد تم تحريك باقي التماثيل إلى اليسار وتركت قاعدة فارغة، وجرى تغطية التمثال ونقله عبر الشاحنات إلى شركة أحجار في نيويورك، وآخر مرة شوهد فيها كانت في عام 1983 حيث كانت التمثال راقدا على جانبه وسط الحشائش في نيوجيرسي.
وكانت صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية قد نشرت سنة 2005. اثنا عشر صورة كاريكاتيرية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد أقل من أسبوعين، قامت بعض الصحف النرويجية والألمانية والفرنسية وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الصور الكاريكاتيرية.
نشر هذه الصور جرح مشاعر الغالبية العظمى من المسلمين وقوبل نشر هذه الصور الكاريكاتيرية بموجة عارمة على الصعيدين الشعبي والسياسي في العالم الإسلامي، حيث تمت مقاطعة المنتوجات الدنماركية، كما تعرضت عدة سفارات غربية للهجوم، وأخذت الاحتجاجات طابعاً عنيفا في دمشق حيث أضرمت النيران في المبنى الذي يضم سفارتي الدنمارك والنرويج وتم إحراق القنصلية الدنماركية في بيروت، وكان المسيحيون والكنائس المسيحية أيضاً هدفاً للانتقام العنيف في بعض الأماكن، كما صدرت عدة تهديدات بالقتل ضد رسامي الكاريكاتير والصحيفة، مما أدى إلى اختفاء رسامي الكاريكاتير، ووصف رئيس الوزراء الدانماركي السابق “أندرس فوغ راسموسن” بأنه أسوأ حادث للعلاقات الدولية في الدنمارك منذ الحرب العالمية الثانية.
لم تتوقف الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عند هذا الحد حيث أقدمت صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة الفرنسية سنة 2015 على نشر رسوم كاركاتيرية مسيئة للنبي، مما أشعل نار الاحتجاج من جديد، حيث تعرضت الصحيفة للتهديد عدة مرات وتم إضرام النار في مقر هيئة تحريرها، قبل أن تتعرض لهجوم إرهابي قتل خلاله 12 شخصا من بينهم 4 من أبرز رسامي الصحيفة، مما تسبب في صدمة عالمية وتظاهرات ضخمة في فرنسا. غير أن هذا الحادث لم يضع حدا للإساءة التي يتعرض لها الإسلام، حيث أعادت الصحيفة نشر الرسوم المسيئة
خلال شهر شتنبر الماضي تزامنا مع بدء محاكمة منفذي الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له سنة 2015، وهو ما أثار غضب المسلمين عبر أقطار العالم ودفع الكثيرين إلى مقاطعة المنتوجات الفرنسية كرد على الإساءة التي يتعرض لها الرسول الكريم، في الوقت الذي اعتبر فيه عدد من العلماء المسلمين أن إصرار الصحيفة على إعادة نشر هذه الرسوم المسيئة، يعتبر جريمة نكراء ترسخ لخطاب الكراهية، وتؤجج الصراع بين الأديان.
إعداد: إدريس لكبيش

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *