الرئيسية اراء ومواقف رمضانيات…مقدمة الجزء الأول من “مقامات العميري”

رمضانيات…مقدمة الجزء الأول من “مقامات العميري”

كتبه كتب في 13 مارس 2024 - 18:00

الأستاذ :حسن بضرون

حين نتحدث عن فن المقامة ،فإننا بصدد الحديث عن أحد الفنون التي تميز بها أدبنا العربي ،فهو كلام فصيح يجمع بين النثر والشعر، وهو أقرب أن يكون قصة قصيرة مسجوعة، حكاية أدبية بليغة تقوم على التفنن في التعبير والاهتمام باللفظ والأناقة اللغوية،ويشتمل على كثير من درر اللغة وفرائد الأدب والحكم والأمثال .بطلها شخصية فكاهية نشطة تنتزع البسمة من الشفاه ،والضحكة من الأعماق،حدثها طريف، فحواه نادرة أدبية أو مغامرة هزلية،تحمل في طياتها لونا من ألوان النقد والسخرية،وسقوط القيم،لتمثل صورة من صور الحياة…

وقد استهوى هذا الفن عددا كبيرا من الأدباء والعلماء-كالهمذاني والحريري و  الزمخشري والسيوطي مثلا-وأقبل عليه طلاب الدرس قديما وحديثا،منهم من سار على النمط الذي أسس له بديع الزمان الهمذاني ،ومنهم من جنحت مقاماته نحو شكل جديد يلائم الذوق العام المعاصر.

ويعتبر الأستاذ محمد العميري واحدا من هؤلاء الذين سكنت روحهم ملكة الإبداع ،و امتزجت بدمائهم لوعة الطرافة والإمتاع ورغم قدراته ومؤهلاته، ظل منزويا لا يسعى وراء الشهرة والنجومية، ففي الوقت الذي أصبحنا نرى فيه البعض يتمطى للظفر بقيمة وقدر من الوجاهة المزيفة ،يتجلى أستاذنا متوهجا كالشمس،يسطع في الذهن والوجدان بإكبار وإجلال…

إنه إنسان متواضع عمل ولا يزال مدرسا للغة العربية بثانوية الداخلة بأولادبرحيل،مؤسسة شهدت أروقتها لسنوات إبداعاته المتميزة ، وأضفت مستملحاته رونقا وسحرا على أنشطتها المختلفة…حين يقابلك ترى الحفاوة الصادقة في عينيه قبل أن تلمسها حارة من يديه، تعجبك تلقائيته في الحوار ،وإذا ناقشته فكن متوقعا أن يحلق بك في سماوات الفكاهة بألوان الطيف ،ويجول بك في غابات من المعرفة تكتنفها الغرابة والألفة ،وحين تعجز عن مجاراته تلزم الصمت لتصغي إليه في حماسة وتأدب متعلم…

قد تجالس الناس فيتعبونك بنميمتهم ورفثهم ولكن كل جلسة جمعتنا بالأستاذالعميري تكون نميمة في دواليب فكاهة تخص الأدب والتعليم وقضايا المجتمع …فطوبى لمن عاشره ،وهنيئا لمن جالسه،وخسارة لمن لم ترسم له الأقدار معرفته…

مقامات العميري مرآة تعكس شخصيته المرحة ،وفكرا جريئا يتسلل خلسة في محيطنا الاجتماعي والثقافي والسياسي والتربوي لينقل صورا  تجسد واقعا حيا ، وتلامس مواضيع هي بمثابة طابوهات ،ومسكوت عنه كالمقامة البيدوفيلية مثلا،وكل مقامة وحدة قصصية ،مفتاحها السحري عنوان متميزمعبر يحرك رغبة القارئ،ويمنحه متعة للقراءة…

خمس عشرة مقامة ،تشكل بحق عصارة فكر عميري،تنويري وحداثي عبر في بعضها بجلاء عن ظواهر خطيرة تنخر جسد المجتمع البرحيلي كصورة مصغرة للواقع المغربي:بطالة حملة الشهادات العليا،الشعوذة،الفساد ،انهيار القيم والأخلاق،الجهل بمقاصد الدين،التطرف…،ورسم في أخرى بدقة متناهية لوحات ساخرة لمنظومتنا التعليمية،مبرزا ما يعتريها من اختلالات ،وصراعات فكرية، مقترحا فيما وراء السطور بدائل مرغوب فيها،إضافةإلى مجموعة من الكاريكاتورات المتنوعة التي تتناول واقعنا العربي والإسلامي والدولي ،وترصد الأحداث هنا وهناك…أحداث كانت جميعها على لسان راو بطل يتكرر في جميع المقامات ،إنه الحاج عمر اللعيبة،شخصية واقعية تنتمي في بدايتها إلى فئة هشة واستطاعت بدهائها وذكائها أن تتسلق لتحط رحالها في ركب طبقة اجتماعية متوسطة،ويختزل لقب اللعيبة شحنة من النباهة والفهلوة،إضافة إلى إتقان ملفت لفن التعبير والخطابة يبهر…

مقامات العميري عقد فريد ،انتظمت جواهره بلغة متينة قصيرة الجمل ،ومقاطع موسيقية تطرب النفوس،وقد اعتمد في صياغتها على فنون البلاغة المتنوعة من تشبيه وكناية واستعارة واقتباس ،ومحسنات بديعيةمن طباق وجناس ومقابلة…دون إغراق في الصنعة اللفظية،ومع توظيف جزئي لغريب اللغة…جمل نسجت نغماتها بسجع متناسق دون إسفاف واجترار للمعاني …جمل ترصعها الأفعال لتمنح حركية النص ونبضا يخفق بحياة تنبعث من وراء السطور،فتحثك على تمثل مختلف القيم الأصيلة والنبيلة،وتشرب السلوكات الحضاريةالتي يسودها الإخاء والتعايش والحوار.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *