الرئيسية مجتمع مثير: هكذا تنشط تجارة السم في المغرب‎

مثير: هكذا تنشط تجارة السم في المغرب‎

كتبه كتب في 11 مايو 2015 - 22:38

لا ينتبه مستعملو الطريق الوطنية رقم 109 الرابطة بين المحمدية ومطار محمد الخامس إلى وجود ضيعة تيط مليل للتجارب الطبية التابعة لمعهد باستور، فلا تقابلك علامة تشوير تخبر عابري الطريق بوجود ملحقة للمعهد. وحده حارس المؤسسة تطوع وكتب على بوابة الضيعة هوية المكان المفتوح على جميع الاحتمالات المثيرة لشهية المضاربين العقاريين، لأنه مجرد فضاء غير محاط بسياح مما يعفيه من مقومات المؤسسة ويجعله في نظر السكان مجرد أرض خلاء لا مالك لها إلا “مخزن” له اهتمامات أخرى. في هذه الضيعة الصامدة ضد تربص مجلس المدينة، والتي تحاول أن تغسل وجهها مع مطلع صبح يوم لتجدد نشاطها وتسترجع دورها، يتعايش حيوانات متنافرة الفصائل لكنها تشترك في العمل المخبري، هنا يعيش البغال والأرانب والفئران والأفاعي والعقارب جنبا إلى جنب لا تفرق بينهم سوى حواجز تجعل لكل كائن حيواني دور طبي.
عينت إدارة معهد باستور طبيبا بيطريا لشغل مهمة مدير ضيعة التجارب بتيط مليل، كما تشتغل إلى جانبه مجموعة من الأطر الطبية وأعوان يعملون على ضمان استمرار الضيعة وطرد التثاؤب الذي سيطر عليها وجعلها موضع أطماع المستثمرين، لاسيما بعد وقف إيجار الضيعة للفلاحين مما أضر بجميع الأطراف حيث حرم المؤسسة من مدخول سنوي قار، ومحاصيل عينية كعلف للحيوانات الموجودة في الضيعة، وأحالت المكان إلى أرض خلاء بلا ملامح ولا عنوان ولا هم “يفرحون”.
في هذا التحقيق تتعقب “الأخبار” طريق تجارة السموم ومصادر تموين ضيعة التجارب و”حلاقي” جامع لفنا، وترصد لعبة العرض والطلب والإنتاج، وما يتخللها من مسالك وعرة لا تختلف كثيرا عن مخابئ العقارب والأفاعي.

وداوها بالتي كانت هي الداء
قال الدكتور لطفي بوسدة المسؤول عن ضيعة التجارب بتيط مليل، إن معهد باستور قدم أبحاثا عديدة عن فوائد سموم العقارب والأفاعي، مضيفا بأن السم، الذي ارتبط في الأذهان بالقدرة السريعة على الفتك بالأرواح، قادر على دعم جهود المعهد في مجال البحث العلمي، من خلال مجموعة من الدراسات الجادة التي قام بها المعهد منذ سنوات عن فوائد سم العقرب للمصابين ليس فقط باللسعات ولكن بالعديد من الأمراض الأخرى بما فيها أمراض السكري، ومن يعانون من الدورة الدموية الحادة، والأنيميا وغيرها من الأمراض. المسؤول عن ضيعة التجارب أوضح بأن موسم الأفاعي والعقارب يمتد من شهر أبريل حتى حلول فصل الشتاء من كل عام، لأن العقارب والأفاعي من ذوات السم البارد، ولايستطعيون أن يحافظوا على درجة حرارتهم، لذلك يخرجون من جحورهم، “المواطن عادة ما يربط من خلال معتقداته بين حرارة الجو وازدياد العقارب والأفاعي، التي لا تظهر تحت الضوء بل تتحرك في الظلام، علما أن المناخ القاري يشكل جاذبة للعقارب والأفاعي”.  وأضاف بأن لدغة الأفعى خطيرة جدا على الإنسان لأن السم يحلل الأنسجة الداخلية فيؤثر على الدم، لذلك سقوط الضحايا من الأفاعى أكثر منه عند العقارب، ولكن الإحصائيات الرسمية حتى الآن لا تظهر عدد المصابين الحقيقيين بلدغات الأفاعي أو العقارب، مشيرا إلى أهمية البحث العلمي في “الاستفادة الحقيقة من لدغات العقارب وسموم الأفاعي”.

تاجر السموم بالجملة
لكن من يزود الضيعة بـ”بضاعة” السموم؟ وما هي الجهة التي تمون المعهد بالعقارب والأفاعي؟ يوضح سعد الحارس العام لضيعة التجارب التابعة لمعهد باستور، مصادر التموين، ويحيلنا على شخص يعتبر المزود الرئيسي للمؤسسة بهذا النوع من الكائنات، يقطن في جماعة “أولاد عيسى” التابعة لإقليم الجديدة.
كان لا بد من البحث عن عنوان الممون الرئيسي، وتعقب مصادر السلع السامة. رضوان مصباحي هو صاحب المهمات الصعبة، وهو القادر على تمشيط أي منطقة من العقارب والأفاعي والثعابين، يكفي أن يعلم بمخابئ هذه الكائنات حتى يتعقبها ويبحث عنها تحت الحجر وفي المغارات.
ضربنا موعدا مع رضوان في قرية سيدي عابد الاصطيافية، في منتصف الطريق بين الجديدة والوليدية، هناك وقفنا في انتظار الرجل الذي سيدلنا على “مناجم” السموم وعلى مخازن العقارب والأفاعي. توقفت سيارة من نوع “فورد ترانزيت” نزل منها رجل في منتصف الثلاثينات قمحي البشرة، متوسط الجثة، توجه نحونا وهو يفصح عن هويته “بائع العقارب والأفاعي بالجملة”، لا يملك الرجل بطاقة زيارة تشير إلى مهنته، لكنه يؤكد بأن حرفته الأولى هي تربية الحلزون وجمعه من الباعة لبيعه بالجملة لمطاعم والباعة الجائلين في الدار البيضاء والجديدة، قبل أن يختار طوعا بيع العقارب والأفاعي. لم تعد تفصلنا إلا أياما على فصل الصيف، الذي تنشط فيه الزواحف السامة بمختلف تشكيلاتها وتلاوينها بعد شهور من الاعتكاف في جحورها، في نقاط مختلفة من المناطق شبه الجافة أو الجافة ببلادنا، لكن الرجل يبدو غاضبا على حرفة موسمية تعيش تقلبات العرض والطلب.
“ورثت هذه الحرفة عن والدي وحين كبرت بدأت أصطاد العقارب والأفاعي وأبيعها للحلايقية في مراكش على الخصوص، قبل أن أتحول إلى ممون لمعهد باستور حين كان ينتج اللقاح المضاد للسموم، الآن توقف المختبر عن الإنتاج وأصبح الطلب ضعيفا، لهذا فالحرفة لا يمكنها أن تطعم أفواه أسرة تحت رعايتي”.

فرقة الصيادين.. تلاميذ وعاطلون
في المقعد الأمامي للسيارة يجلس شابان يافعان يرتديان زيا رياضيا، قدمهما لنا رضوان بالقول: “في الدواوير المجاورة عشرات الشبان والأطفال الذين أتعامل معهم، فهم يصطادون العقارب التي تزخر بها المنطقة، وكلما جمعوا كمية أقتنيها منهم مقابل درهم واحد للعقرب، وأبيعها بثلاث دراهم أو درهمين ونصف حسب تقلبات السوق، إنهم تلاميذ يبحثون عن مصروف الجيب من تحت الحجار وفي المغارات”.
يجمع الشابان على صعوبة المهمة والمخاطر التي تتربص بهما، وقالا بأنهما يصطادان العقارب دون علم وأفراد أسرهم، ولكنهم مضطرون لذلك من أجل تدبير بعض المصاريف الطارئة خاصة وأن الوضع الاجتماعي للأسر ليس على ما يرام ولا يؤمن الحد الأدنى من العيش الكريم”.
لمواجهة كساد سوق السموم على المستوى المغربي، يعمد رضوان إلى توظيف الشباب في مهام أخرى، حيث يدعوهم لجمع محاصيل مجموعة من النباتات التي يبيعها للعشابين في سوق “الجميعة” بالدار البيضاء، “هذا السوق لا يتوقف عن طلب بضاعتنا، لهذا أكون مضطرا للبحث عنها من ممونين آخرين من خارج المنطقة التي أعيش فيها”.
يملك رضوان مخزنا بجانب بيته بدوار تابع لجماعة “أولاد عيسى”، يضع فيه مخزنه من السلع خطيرة الاستعمال، من عقارب وأفاعي غالبا ما يضعها في أكياس بلاستيكية ذات جودة عالية، إلا أن لكل مهنة مخاطرها فغالبا ما تتسرب من بين الثقوب أفاعي وثعابين وعقارب. “استيقظت ذات يوم وأثناء تفقدي للمخزن اكتشفت أن ثقبا في إحدى الأكياس التي كانت معبأة بالعقارب حينها شرعت في مطاردتها بين الأحجار خارج البيت وعثرت على بعضها في حينه والبعض في اليوم الموالي، لم أشعر أهالي الدوار بهروب الثعابين خوفا من الفوضى التي قد تملأ المكان”.

العقارب.. لكل غاية طبية
يحمل رضوان بضاعته على متن السيارة دون إجراءات احترازية كبيرة، ويشد الرحال صوب مدينة الدار البيضاء ليفرغ ما يحمل جوف السيارة من “سلع” محشوة بالسموم في ضيعة تيط مليل بالدار البيضاء، ويقضي ساعات في جرد الكمية المحمولة خاصة وأن إدارة المركز غالبا ما تدقق في حالة البضائع فترفض الصفراء منها والصغيرة الحجم والمبتورة الأطراف مما يتطلب وقتا طويلا لإيداع العقارب في المصلحة، والعودة إلى عمق دكالة بوصل يؤكد تزود الضيعة بالكمية المتفق عليها.
يقول مدير الضيعة، إن السموم لها منافع كثيرة عكس ما يعتقد الكثير من الناس، “فيها علاج من داء الكلب وداء السل وحتى وباء إيبولا، لقد كان المركز ينتج الأمصال ويحقق الاكتفاء الذاتي من اللقاح بل ويصدره إلى دول أخرى خاصة ليبيا، قبل أن يتوقف عن الإنتاج، ويقتني حاجياته من الأسواق الهندية”.
وترى الدكتورة نوال عكاش التي صادفناها في الضيعة وهي تقوم رفقة فريق طبي ببحث ميداني ومخبري، أن “ضيعة التجارب في أمس الحاجة إلى فضاء لتربية العقارب والأفاعي، حتى يتحول المعهد إلى منتج لها بدل الاستمرار في شرائها من مزودين”.
أما جمال بن عبد الكريم وهو تقني بالمعهد، فأشار إلى أن “توقف معهد باستور بمدينة الدار البيضاء عن إنتاج الأمصال المضادة لسموم العقارب والأفاعي منذ ما يزيد عن 10  سنوات يدعو إلى التفكير في مضاعفات هذا الإغلاق والتطلع إلى بناء وحدة إنتاج تتسم بالمعايير الدولية، كما أن عملية تمويل هذه الوحدة الضرورية للإنتاج بقيت معلقة التنفيذ إلى يومنا هذا، بالرغم من الموافقة المبدئية للمجلس الإداري للمعهد على تمويل هذا المشروع الهام خاصة وزير الصحة”.

بيع الأفاعي بالتقسيط
لا يوجد مخزون من الأفاعي والثعابين في ضيعة تيط مليل، لكن هذا الفضاء عرف في السنوات الماضية كميات وافرة من الأفاعي، لكن آخر تقرير صادر عن المركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية أكد أن لسعات وسم العقارب تعد السبب الأول للتسمم بالمغرب، وهو ما يدعو إلى التفكير الجاد في إعادة فتح وحدة الإنتاج المغلقة.
يصر رضوان على أن بيع الأفاعي والثعابين لمروضيها في ساحة “جامع الفنا” أو غيرها من فضاءات الفرجة، أكثر مردودية من بيعها لمعهد، حيث غالبا ما يتأخر صرف المستحقات وتسديد فاتورات قال إنها وصلت في بعض الأحيان إلى 10 ملايين سنتيم. لكن العاملين في تجارة السموم يؤكدون أن المروضين يحتاجون لدورات توعية حتى لا يظلوا عرضة لمخاطر السموم، يقول رضوان: “المروضون في مراكش مثلا يتلاعبون بالأفاعي كيفما شاءوا، من دون خوف من لدغاتها وسمومها، لم يزرهم أي طبيب من أجل توعيتهم، وحدها السلطة تحذرهم من وضع الأفاعي حول أعناق السياح”، علما أن التحذير يقتصر على السياح الأجانب دون سواهم. قبل عامين، عرفت مدينة مراكش مؤتمرا طبيا حول السموم، حضره أكثر من 200 طبيب وخبير في ميدان معالجة تسممات العقارب والأفاعي، من المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا والدنمارك وماليزيا والسينغال والكونغو والجزائر وتونس وماليزيا، وناقشوا عدة قضايا، لكن أين هي توصيات الملتقى؟ “تم تدارس كل ما يرتبط بمجال معالجة لسعات العقارب ولدغات الأفاعي. وكان هدف الملتقى الدولي الأول بمبادرة من معهد باستور بالمغرب، هو تبادل التجارب بين الاختصاصيين والخبراء، بشكل يساعد على تعزيز التعاون بين بلدانهم، في هذا المجال، لكن ما الفائدة من التوصيات في ظل إغلاق وحدة إنتاج الأمصال واللقاحات”، يقول فؤاد الشتيوي الإطار التقني بالمعهد.

قاهر العقارب
قضى إدريس حجاجي في مصلحة السموم بالضيعة أزيد من ربع قرن، مهمته الأساسية استئصال السموم من العقارب والأفاعي والثعابين، يبلغ من العمر حوالي خمسين سنة، قضى نصفها في “عصر” السموم، ومرافقة الكائنات الخطيرة، يقول ابن تاونات، إنه يفكر في العودة إلى مسقط رأسه بعد حصوله على التقاعد، وأنه مستعد لتعليم هذه المهنة لتقنيين آخرين كما تعلمها من تقني فرنسي، “مهمتي عي استخلاص السموم من العقارب والأفاعي في البداية كانت الطرق بدائية وخطرة، تعتمد على لمس ظهر العقرب حتى يضطر إلى إفراز السموم، لكن الآن هناك تقنية أخرى تعتمد على الكهرباء فالصعقة تجبر العقرب على إفراز السم”. حسب حجاجي فإن عدد العاملين في المصلحة المهتمة باستخلاص السموم هو ستة أفراد، لكنه الأكثر تعاملا مع الكائنات الخطرة، إذ يفحص يوميا ما لا يقل عن مائة عقرب، “1000 عقرب تعطينا 400 مليلتر من السم، والعقرب لا يموت فور تخلصه من السموم كما يتداول العامة بل يستمر في الحياة، إلا أن الصعوبة تكمن في التعامل مع الثعابين فحالة سهو قد تعرضني للسعات السموم”. أصبح حجاجي خبيرا بأنواع العقارب والأفاعي، فيده تحمل آثار غارات سامة تصدى لها بوخز لقاح جاهز لكل طارئ. ويستطرد الرجل قائلا: “تلقيت عرضا للاشتغال في الولايات المتحدة الأمريكية قبل عشر سنوات، فقد زارني أمريكي هنا واقترح علي ممارسة نفس المهنة في ضيعة تجارب، لكنني رفضت خاصة بعد أن علم مدير معهد باستور بتردد الرجل علي فهدده بالاعتقال”. أصبح ابن جبال تاونات خبيرا بالسموم، قادرا على معرفة كل أنواع العقارب والأفاعي، بل إنه يتلقى طلبات للتدخل لتخليص أسر من هجوم أفعى أو عقارب، وهو اسم معروف لدى حلايقية جامع لفنا خاصة “عيساوة” الذين يستشيرونه في بعض أمور مهنتهم..

خريطة السموم في المغرب
حسب المعطيات الإحصائية المتوفرة فإن حالات الوفيات في المغرب بين المصابين بلسعات العقارب، تتراوح بين 80 و100 حالة سنويا، مع تسجيل ما يقارب 30 ألف إصابة سنويا.
تصنف الدراسات “المناطق الحمراء” في خانة الأماكن الأكثر “كثافة سكنية” للعقارب والأفاعي، وتعتبر جهة مراكش الحوز المتصدر الأول للسعات وأيضا الوفيات الناجمة عنها على الصعيد الوطني.
تعد جماعة المربوح، التابعة ترابيا لإقليم قلعة السراغنة من بين الجماعات القروية الأكثر عرضة للسعات العقارب. يتساءل رئيسها العياشي الفرفار عما تم إعداده لمواجهة مخاطر زحف الزواحف السامة وبخاصة منها العقارب والأفاعي، ومدى وجود مخططات استعجالية أو غير ذلك ، لمواجهة شراسة البعض من هذه الزواحف السامة.
“مع ارتفا ع موجة الحرارة التي يعرفها الإقليم يسجل ارتفاع حالات لسعات العقارب، حيث استقبل قسم المستعجلات بمستشفى السلامة الإقليمي 37 حالة في فترة زمنية لا تتعدى 72 ساعة، أغلب هذه الإصابات من المجال القروي مع ملاحظة أن 9 حالات كانت من خارج الإقليم وتحديدا من منطقة فم الجمعة”.  وحسب معطيات وإحصاءات صادرة عن المركز المغربي لمحاربة التسمم، فإن الهم الأكبر، هو المتعلق بلسعات العقارب، التي يوجد منها أكثر من 30 نوعا، أخطرها وأشهرها، حسب الدراسات الحديثة، هو العقرب المسمى “أندروكتونيس موريتانيكوس” وهو أسود اللون، حيث تسجل أكثر الحالات في القرى، 70 في المائة منها داخل البيوت، وتسجل 3 حالات وفاة بين كل ألف لسعة تقريبا، وهناك نسبة 90 في المائة من الوفيات بين الأطفال دون 15 سنة. وتقول تقارير المركز المغربي لمحاربة التسمم، إن العقارب تتكاثر في المغرب ما بين شهري ماي وأكتوبر، وتصل إلى أوج نشاطها في شهري يوليوز وغشت.

حسن البصري

مشاركة