الرئيسية مجتمع ورزازات : تفاصيل 20 يوما من العزلة بدواوير منكوبة

ورزازات : تفاصيل 20 يوما من العزلة بدواوير منكوبة

كتبه كتب في 3 يناير 2015 - 14:13

«اهتم الجميع بكلميم وسيدي إفني ونسيت دواوير ورزازات. الدمار ضرب هذه المناطق. هي الآن أفظع من سوريا كما سترى». بهذه الجملة حاول رئيس جمعية شمس بورزازات تلخيص ما كنا سنراه خلال جولة بدواوير عزلتها الأمطار الأخيرة، بضواحي المدينة. مناطق يقول سكان المدينة إنها بدأت لحظات احتضار في الوقت الذي توجهت فيه عدسات الكاميرات لتنقل سقوط قناطر وتهاوي منازل بتزنيت ونواحي أكادير.
الوجهة كانت صوب «تسامرت». قرية نائية خلف الجبال التي تكسوها الثلوج. منظر الجبال يبدو بديعا وهو يحيط بالمدينة، لكن ما وراء هذا الجمال صور مؤلمة لعشرات السكان الذين ظلوا متكدسين بمدرسة طيلة 20 يوما، إلى حين وصول قافلة مساعدة لجمعيات مدنية بورزازات والدار البيضاء لفك عزلتهم واكتشاف أثر التساقطات على أقاصي المغرب العميق.

 لا يمكن أن لا يساور المتوجه صوب ورزازات، عبر طريق «تيشكا»، هلع. طريق الموت هاته تصير موحشة ومفزعة للغاية بعد التساقطات.

توجهنا ليلا إلى ورزازات عبر «تيشكا». الطريق الضيقة تلتف على نحو مرعب بين الجبال. المشهد في الجانبين أكثر إفزاعا. حائط جبلي قد تتهاوى صخوره في أية لحظة، وظلام دامس قبالته، تختفي وراءه الأرض التي تصير بعيدة جدا كلما ارتفعنا نحو قمة الجبل.
أمارة سيئة حدثت عند الطريق ليلة الجمعة الماضية. شاحنة رمال انقلبت بالقرب من «تدارت»، النقطة الوسطى والأكثر أمنا ومدعاة للاطمئنان على طول جحيم «تيشكا». السائق هرع محتميا بالجبل من هول الصدمة. الشاحنة ظلت معلقة على حافة الطريق، لا يحول دون سقوطها سوى بقايا حاجز حديدي وضع بجنبات الطريق.
بلغنا ورزازات عند منتصف الليل. الجو هادئ وسكون تام بالمدينة يزيد البرد شدة. بساحة في حي المقاومة كانت الحركة غير عادية. خيمة منصوبة وعشرات الأشخاص يعدون مساعدات ويشحنونها على متن حافلات ستتوجه عند طلائع يوم السبت الماضي صوب دواوير معزولة بقيادة «غسات»، التي تبعد بنحو 40 كيلومترا عن ورزازات. يقيم هنا نحو 4500 شخص. 74 منزلا بالمنطقة تهاوت بسبب الأمطار، كما يقول مسؤول ترابي.
الحركة تواصلت حتى الصباح. انتهى تحميل المؤن والمساعدات وانطلقت القافلة، قبل أن تتفرق على فريقين، أحدهما توجه صوب دواوير «تاغيا»، والآخر، الذي كنا ضمنه، انطلق نحو أكثر مناطق ورزازات تضررا: تسامرت.

«تسامرت».. الأرض المشمسة تتجمد
«تسامرت» بالأمازيغية هي الأرض المشمسة، كما يشرح مرافقونا. هي، في نهاية المطاف، دوار عند سفح جبل يطل على واد فسيح، بني مقابلا للشمس التي تزيل عنه، أيام القر، بعضا من البرد الفظيع، والذي تزيد من حدته كتل ثلجية تنفث لسعات برد مؤذية.
في الوقت الذي كانت فيه نشرات مديرية الأرصاد الجوية تتوالى، منذرة بتساقطات مطرية طوفانية تهدد دواوير ومناطق بسبب فيضانات أودية ظلت ساكنة لسنوات، كان سكان دوار «تسامرت» يتتبعون بنظرات وجلة المياه الهادرة التي بدأت تتجمع بالوادي. الأمطار لم تكن عن السقوط. بدأت المنازل، المبنية بالطين تتداعى.
«هرعنا إلى المدرسة بعدما بدأت المنازل تسقط. بعض أبناء الدوار الذي يعملون بالمدن المجاورة، وخاصة ورزازات، سمعوا الخبر وتوجهوا مسرعين نحونا للمساعدة. عدد من المنازل كانت قد تدمرت كليا»، يقول الحسين، أحد شباب «تسامرت».
المدرسة التي احتمى بها السكان، البالغ عددهم 224 شخصا موزعين على 27 عائلة، مكونة من قسم ومكان مخصص لسكن المعلم الذي غادر بعد انقطاع الدراسة إلى حدود نهاية الأسبوع الثالث من شهر دجنبر الماضي. افترش الناس ما كان لديهم من أفرشة وتدثروا بأغطية بالية، كلهم، مكدسين بهذه الأقسام، إلى حين ظهور منقذ. مرحاض قريب من المدرسة كانت في حالة مزرية من فرط استعماله.
في هذه اللحظة بدأت 20 يوما من العزلة. «كنا نتقاسم ما توفر لدينا من طعام. ونتجمع حول النار اتقاء البرد الذي لم تخف لسعاته رغم ذلك، ما أدى إلى وفاة رجل مسن كان مريضا»، يروي الحسين.
كان رجلا طاعنا في السن، كما تحكي زوجته العجوز أيضا. مات بسبب البرد. حينما حدث ذلك انتقل قائد غسات وطبيب لفحص الجثة. الزوجة العجوز تعيش الآن بالدوار لوحدها رفقة ابنتين وولد. الابن الأكبر سنا يوجد خارج الدوار. هو في السجن حيث يقضي عقوبة حبسية.

العيش في قلب الجبال
مشهد سكان هذه المنطقة كان مؤلما للغاية، خصوصا حين توزيع المساعدات عليهم. النسوة اخترن الانزواء في مكان يراقبن الوضع في خجل. الأطفال تجمعوا بدورهم مستطلعين. فتيات ضئيلات الجسم يحملن على ظهورهن أطفالا صغارا. الأطفال يراقبون، بأعين مندهشة، الشخص الذي يوزع كراسات وعلب بسكويت.
ليلة زيارتنا، رفقة موكب المساعدة، كانت السلطات المحلية، كما يقول السكان، قد حلت بالدوار. نصبوا أربع خيام تابعة للوقاية المدنية وأمروا السكان المدمرة منازلهم السكن بها ومغادرة المدرسة. «قالوا لنا إن المعلم سيرجع وستستأنف الدراسة. لم نرغب في مغادرة المدرسة. هي المكان الأكثر دفئا وأمنا. يمكن للخيام أن تحمينا من البرد الذي يشتد ليلا؟»، يقول أحد سكان الدوار.
على كل حال، كان مفروضا على السكان اللجوء إلى الخيام الأربعة المنصوبة. أسر أخرى اختارت الهبوط إلى «العزايب» المقامة سلفا في مناطق أكثر أمانا. هي في الحقيقة زرائب بهائم. قرر السكان، في النهاية، التخلي عن بهائمهم والاحتماء في الزرائب بدلها.
«ليس لدينا ما نأكله. الفلاحة التي نعتمد عليها للعيش تدمرت. لم نر الخضر منذ أسابيع»، يستطرد الحسين. في الواقع، كل الأراضي الفلاحية، موجودة عند مجرى الوادي، المكان الواطئ الوحيد الذي يمكن أن تنمو فيه خضر هو الوادي.
في الأصل، يعيش سكان «تسامرت» عزلة قاتلة بدون فيضان. فالوصول إليه يفترض قطع 60 كيلومترا من أقرب مدينة، وهي ورزازات. 20 كيلومترا عبارة عن طريق غير معبدة بين فجاج جبال، نصفها طريق يخترق الوادي نفسه. لا يمكن إلا لسيارات الدفع الرباعي أن تصل إلى الدوار، وفقط في الوقت الذي تكون فيه مياه الوادي منحسرة.
«النساء والأطفال يقطعون يوميا 4 كيلومترات على الأقل للوصول إلى أماكن يجمعون منها حطبا للتدفئة. النساء في هذه المنطقة رزقهن الله صبرا كبيرا. إذا أردنا التزود ببضائع وجب تحديد موعد في الشهر لننتقل إلى ورزازات حيث نقتني ما نرغب فيه من تاجر يتكفل بإيصال المؤن إلينا عبر شاحنة. أحيانا لا تستطيع الشاحنة التقدم أكثر صوب الدوار ونضطر إلى الانتقال إلى حيث توقفت لحمل بضائعنا على ظهورنا وقطع مسافة طويلة كي نعود إلى الدوار. هذا يرفع ثمن البضائع. قنينة الغاز كبيرة الحجم نشتريها بسبعين درهما»، يردف أحد سكان الدوار.
الطريق إلى ورزازات شاق فعلا ومكلف. حتى التفكير في ذلك متعب، إذ يتطلب الأمر المشي 8 كيلومترات بين الجبال حتى بلوغ طريق تمر بها سيارات أجرة. الرحلة تكلف 30 درهما. مبلغ كبير حسب السكان.
في الحالات الطارئة قد لا يجد السكان كيف ينتقلون إلى المدينة. مثل ما يحدث للنساء عندما يشتد عليهم المخاض. جلهن يلدن بالدوار. على العموم لا تسجل نسبة وفيات كبيرة عند الولادة هنا، كما يقول أحد السكان، الذي روى قصة مؤلمة عن مخاض عسير مرت منه زوجته: «لم أجد سيارة إسعاف تنقل زوجتي بسبب معاناتها من مخاض عسير أثناء الولادة. أحد سكان الدوار يملك سيارة (يشير إلى سيارة بسيطة)، تطوع لنقلي رفقة زوجتي صوب مستشفى سيدي احساين بورزازات. الهيلكوبتر التي تنقل المرضى إلى المستشفيات في المناطق المعزولة لا نراها إلا في التلفزة».

محاولات إنقاذ
بدأت «تسامرت» تلملم جراحها. أسرة، بكل أفرادها، كانت تجهد في إحاطة قطعة فلاحية صغيرة بسور حتى لا تغمرها مياه الوادي الناشئة بعد ذوبان الثلوج.
لم يهتم الناس هنا كثيرا، كما قالوا، لأمر المسؤولين. أكدوا قيام منتخب واحد بزيارة لهم إبان محنتهم. أنباء من الجمعية المنظمة للقافلة أوضحت أن مسؤولا جماعيا ظل يستحثهم للسماح له بالمشاركة في القافلة.
كان مسؤول ترابي بقيادة «غسات» الذي توجد الدواوير المنكوبة بالمنطقة ضمن دائرة نفوذه أول مستقبلي القافلة التضامنية. أكد تدخل السلطات المحلية حين انهيار المنازل بسبب الأمطار. «بعد النشرة الإنذارية استعددنا لأي شيء يمكن أن يحدث، وهو ما حصل بعد سقوط منازل. أحصينا سقوط 74 منزلا. سبب سقوطها غير مرتبط بالفيضانات ولكن لأنها كانت هشة للغاية، على اعتبار أنها مبنية فقط بالطين، ومنذ مدة طويلة. بسبب الأمطار صارت المنازل الطينية أكثر هشاشة فسقطت»، يضيف المسؤول نفسه.
المسؤول ذاته يشير إلى أنه تم القيام بجرد تام لجميع المنازل التي سقطت والأخرى المهددة بالانهيار، ذاكرا أنه سيتم تحديد صيغة لتجاوز وضع هؤلاء والتفكير في طريقة لإعادة إيوائهم.
وضعية التدخلات الرامية إلى إنقاذ سكان هذه المناطق بورزازات صعبة للغاية. بلاغ سابق لعمالة إقليم ورزازات حول «الحصيلة المؤقتة لتدخلات اللجنة الإقليمية لليقظة لمواجهة آثار الفيضانات»، أفاد أنه في محاولة وصول مروحيتين تابعتين على التوالي للدرك الملكي والقوات الملكية الجوية لإيصال المساعدات لسكان منطقة آيت عفان بجماعة إمي نولاون، وإلى بعض دواوير جماعة إزناكن، توقفت دون إتمام المهمة بسبب ارتفاع التضاريس ووعورتها، إضافة إلى التقلبات الجوية.
يزيد الوضع سوءا انقطاع عدة طرق، بحسب ما ذكره بلاغ سابق لمديرية الطرق بوزارة التجهيز والنقل واللوجيستيك، بينما الطريق الوطنية رقم 9 بين المحمدية ومحاميد الغزلان وتيزي نتشكا متوقفة بسبب أشغال إصلاح الأضرار الناجمة عن الفيضانات الاستثنائية الأخيرة.
انتهت عملية توزيع المساعدات قبيل غروب الشمس. قفلنا راجعين مخترقين الطريق الوعرة ذاتها. في اليوم الموالي نظم لقاء ناقش وضع ورزازات ومطالب بجعلها عاصمة لجهة درعة تافيلالت بعد ورود مقترح لوزير الداخلية باختيار الرشيدية لذلك. بالنسبة لسكان ورزازات، للأمر أهمية بالغة. اختيار الرشيدية بدل ورزازات يعني الحكم على المدينة بالإعدام، كما يقول فاعل جمعوي هنا. في آخر المطاف، ستتعمق عزلة المدينة ومعها دواويرها النائية مثل «تسامرت».

عزيز الحور

مشاركة