الرئيسية مجتمع عن الغربة و” الكونجي”… شعرية الهجرة في “إزلان” المغرب الشرقي

عن الغربة و” الكونجي”… شعرية الهجرة في “إزلان” المغرب الشرقي

كتبه كتب في 22 أغسطس 2016 - 19:27

شكل موضوع الهجرة “تيمة” مؤرقة في الوجدان المغربي عموما واتخذ شكل ندوب وأخاديد في ذاكرة القبائل المصدرة للهجرة ومنها أولاد أعمر، بشمال شرق المملكة، التي عاشت على الترحال وشبه الترحال سنين عددا.

ولأن المرأة كانت ومازالت في المجتمعات الأمازيغية “الأموسية” أكثر من يكتوي بلوعة الغربة والفراق لما فيه من تمزق ومن حرقة، سجلت الذاكرة الشعبية في ريبيرتوارها الفولكلوري مشاهد ومحطات يتقاسمها الألم والشوق والحنين في قالب ميلودرامي مؤثر للغاية.

أستحضر هنا جملة من “إزلان”، الأبيات الشعرية المغناة، التي كانت النساء والرجال يؤدونها على حد سواء على شاكلة “لمعاني”، حين تصدح زوجة المغترب و قد ضاقت بها الأرض بما رحبت، فتلقي بناظرها إلى الأفق البعيد، ذاك الذي يمتص المدى ويمعن في تأجيج الشوق.

تمر الأيام ثقيلة متثائبة، وذات مساء تلقي المرأة في اتجاه ذلك المجهول وهي تقوم بربط صغار الماعز بعيدا ببيت شعري حارق: “أنا كلبي كي أنهار المشتى*** إلى أصحا ساعة إصب أنهار”.

تسمعها الحماة وهي منشغلة بالحلب، تكاد لا تميز بين قرون الماعز و أثدائها في “آسون” (الحظيرة) مع أولى قطرات المطر ذات أمسية شتوية كئيبة أيقظت فيها كل الغبن، كل أسئلة الوجود، لترد على إيقاع تساقط الحليب في الإناء: “أنا كلبي كي أجبال الظهرة*** ديما لغمامة والضباب أعليه”.

تعود الزوجة إلى البيت مسرعة لاستكمال ما تبقى من أشغال البيت، فتدير الرحى الحجرية (ثاسيرث أو ثاكرويط) لطحن ما يلزم من حبوب لفطور الغد، وهي تترنم برسالة واضحة للحماة: “آلالا كولي ألودك إيجي*** ولا نرفد حايكي نمشي”، فتجيبها الحماة وهي تغزل الصوف “أنا والله ما أنهول ولدي *** حتا أيجيب الكونجي ويجي”.

تطول مدة العطلة “الكونجي” الملعون، ويدرك المغترب مدى تقصيره في حق أهله فيرسل لزوجته ببيت شعري يقول “أراني خدام في مستردام***كولي الله إيعاون أمادام”، وهو ما ترد عليه الزوجة الملتاعة، وهي تنفض متاع البيت، بقولها “أراني بولدي يخدم وأنعيش***روح الخايب لاتصفطليش”.

يشتعل أوار الرجل في غربته مع “الزوفريا” ومصاريف الكراء والكاميلا وأشغال البيت، فيبرق بإزلي لزوجته الحرون “أيلا مت أنا أنخلي ولدي***وطريق لخلا مانقيلوشي”.

وما إن تسمع الأم الرءوم هذا النداء/الاستغاثة حتى يلين قلبها، هي من عانت الأمرين، فترسل في إثر فلذة الكبد ما يجعله يعدل عن قرار الاغتراب النهائي، بقولها “منين صاط الغربي وحل البيبان*** يسحابلي لوليد جا ركاب”.

قد نواصل هذه “البروفا” إلى ما لانهاية لكثرة ما يتضمنه الفولكلور المحلي من أغراض و لشدة ما عانى الإنسان وما يزال من حرقة ولوعة في سبيل كسرة خبز مرة في هذه الأصقاع المنسية من المغرب الشرقي. لكن المؤكد أن عاشق الشعر بمفهومه الكوني قد يستطيب المقام بين ثنايا “إزلان” وأنواعه و أغراضه، بل قد يغدو مدمنا على استعادة ترانيمه و أنغامه.

أشكر بالمناسبة أحد الزملاء الذي نبهني ذات يوم لكثرة ما استحضرت في محادثاتنا كثافة “إزلان” وهو يهمس في أذني: “آسي لحسن، أرسلناك لتنجز بحثا في الثقافة الشعبية لا أن تمكث هناك”. عذرا صديقي خالد، يبدو أني أحمل الفيروس.

بقلم لحسن إزلكان

مشاركة