الرئيسية اراء ومواقف الامازيغية في المغرب : بين زمن المساواة وزمن الانقلاب

الامازيغية في المغرب : بين زمن المساواة وزمن الانقلاب

كتبه كتب في 16 ديسمبر 2015 - 23:05

حين نطرح القضية الامازيغية في النقاش السياسي والعمومي في مغرب اليوم، فإننا وبدون شك، نروم مقاربتها في إطار شمولي بين الدولة والمجتمع. ولا يمكن فهم هذه العلاقة الغامضة والملغومة، إلا في بنية الزمن الطويل الممتد. ويتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، سؤال مركزي هو كيف تحولت الامازيغية إلى قضية “منبوذة” حصل عليها “إجماع وطني” لتهميشها وإقبارها مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال.  بمعنى آخر، إن الامازيغية قبل أن تكون قضية سياسية، ثقافية وحقوقية، فهي قضية تاريخية بالأساس. ومن ثمة نفهم لماذا اعتقل المؤرخ العظيم المرحوم “صديقي علي ازايكو” بسبب نشره لمقال علمي  سنة 1981 تحت عنوان “في سبيل فهم حقيقي لثقافتنا الوطنية” تحدث فيه بالأساس عن بداية دخول العرب إلى بلاد المغرب. ونفهم ذلك أكثر في رسالة العبقري “محمد شفيق” بتأليفه لكتاب قيم ومرجعي سنة 1988سماه “لمحة عن 33 قرنا من تاريخ الامازيغيين”. ويفسر المفكر والمؤرخ المغربي “عبدالله العروي” المنعطف التاريخي، كمفهوم ابستيمولوجي يحدث قطيعة وثورة في التاريخ على مستوى التحولات والتغيرات البنيوية التي يخلقها في مسار وتاريخ المجتمعات ومستقبلها في جميع المستويات. وعليه، يرى العروي أن التاريخ المغربي-المغاربي عرف منعطفان حاسمان، الأول بدخول الإسلام إلى شمال إفريقيا، والثاني بدخول الحماية أو الاستعمار في القرنين 19 و20. ولاسباب منهجية، سنتحدث عن المنعطف الثاني وعلاقته بالامازيغية، في مقاربة أولية لتحليل جذور القضية الامازيغية ومنعرجاتها. ولتكوين صورة عامة حول مسلسل التصفية الذي استهدف الامازيغية بعد الاستقلال، لابد من تحليل موضوعي لوضعيتها- الامازيغية- مباشرة بعد الحماية، وكيف انبثق وعي سلبي مناهض لها بعد 20 سنة من دخول فرنسا إلى المغرب؟

نظام الحماية والتأسيس للمساواة بين اللغة العربية والامازيغية؛

الدولة الوطنية القطرية اليعقوبية، التي تشكلت بالمغرب في سنة1956 جراء الاستقلال، هي نتيجة حتمية، وصورة مكشوفة لدولة كانت فرنسا قد وضعت أسس بنائها منذ سنة 1912، وذلك بسن ترسانة قانونية جديدة وبديلة عن القوانين التي كانت سائدة في السابق، تهم كل مناحي الحياة والمجالات الوظيفية للمجتمع والأرض والغابات والمياه وغيرها… كما وضعت مؤسسات إدارية وسياسية وعسكرية حديثة وقوية موازية لبنية الدولة الفرنسية، وذلك بجانب منظومة مخزنية تقليدية، وكانت هذه الخطة نتيجة لعبقرية اليوطي الذي نجح في بناء دولة حديثة داخل جلباب المخزن القديم، والذي كان يسهر على ارسال المغاربة إلى الحج وينظم لهم المواسم الدينية ويحتفل معهم بكل الأعياد، وفي نفس الوقت يبني الكنائس ويتغلغل في دواخل المغرب.

ومنذ البدايات الأولى للحماية الفرنسية بالمغرب، سارعت الإدارة الاستعمارية في ضخ وإصدار قوانين حاسمة ومصيرية، البعض منها مازال سائر المفعول إلى الآن، وخاصة بعض القوانين التي تهم الأراضي واستغلال الغابات وبعض المؤسسات الأخرى التي لم تكن موجودة في المنظومة المخزنية التقليدية. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى النصوص القانونية التي تهمنا والتي تنص صراحة على ضرورة المساواة بين اللغة العربية والامازيغية في التوظيف والتوجيه وغيرها، ونذكر بالأساس النصوص التشريعية في المواضيع والقضايا التالية:

مجلس الاتقان لإصلاح شؤون المدرسة العليا للغتين العربية والامازيغية، سنة 1913. قرار وزيري

نظام امتحانات وشهادات المدرسة العليا للغتين العربية والامازيغية بالرباط، في ابريل سنة 1914؛قرار وزيري؛

تنظيم شؤون المدرسة العليا لتعليم اللغتين العربية والامازيغية طبقا لقرار الوزيري 28/02/1915 المتعلق بتنظيم فئة المدرسين، فبراير 1916؛ قرار وزيري؛

إعادة تنظيم مواد الامتحانات في المدرسة العليا لتعليم اللغتين العربية والامازيغية بالرباط، شثنبر 1916؛ قرار وزيري؛

إعادة تنظيم شهادة اللغة الامازيغية، ابتدائية- ثانوية- إجازة بالمدرسة العليا للغتين العربية والامازيغية بالرباط؛ شثنبر 1916؛ قرار وزيري؛

إحداث مدرسة امازيغية بأزرو ونواحيها طبقا لظهير 1920/07/26؛ يونيو 1930؛ قرار وزيري؛

تأسيس جوائز تشجيع تعليم اللغتين الامازيغية والعربية، يناير 1915؛ قرار وزيري؛

منح جوائز تشجيعية للموظفين الحائزين على شهادة من شهادات اللغة الامازيغية، ابريل 1918؛ قرار وزيري؛

تنظيم هيأة المترجمين المدنيين خريجو المدرسة العليا لتعليم اللغات العربية والامازيغية، ماي 1913، قرار وزاري؛

تعيين مترجمين مؤقتا لحين الحصول على شهادة اللغة الامازيغية؛ شثنبر 1915، قرار وزيري؛

هذه بعض النماذج من النصوص التشريعية التي وضعتها فرنسا إبان سنواتها الأولى بالمغرب، منشورة كلها في الجريدة الرسمية ويمكن الرجوع إليها لتعميق البحث والفائدة. وتبين لنا هذه النصوص مدى الازدواجية والمساواة بين اللغتين الامازيغية والعربية، في التوظيف والوظائف خاصة في التعليم والتدريس والترجمة، وهو ما يظهر أن فرنسا بغض النظر عن مطامحها الاستعمارية، إلا أنها تتعامل مع الواقع المغربي وخصوصياته بنوع من الاحترام والمساواة بين اللغات، بحكم أن الامازيغية كانت تفرض نفسها بقوة الواقع في تلك الفترة التي كان معظم السكان يقطنون في البوادي، عكس ما حصل لها من نكوص وتقهقر حاليا. وعملت فرنسا أيضا على مأسسة الأعراف الامازيغية المحلية منذ سنة 1913 إلى حين صدور ظهير مشهور وقعه السلطان سنة 1930 الذي ينص على ضرورة إبقاء هذه الأعراف وتنظيمها في المناطق والقبائل التي تستعملها وتوظفها. لكن هذا الظهير تعرض لأبشع استغلال سياسي عرفه التاريخ العالمي، وتحول إلى أسطورة مؤسسة لحركة سياسية وفكرية تحمل عداء لا مثيل له لكل ما هو أمازيغي، حركة استهدفت في نشأتها ومسارها قتل الامازيغية ورموزها، واستغلت الشعور الوطني ضد الاستعمار لتصفية لغة وطنية وحضارة عريقة، ومنذ ذلك الحين تتحين الفرصة للانقضاض على كل ما أنجز من تراكم تشريعي وعلمي وأكاديمي في الحقل الامازيغي، وتحقق لها الحلم هي وأحزابها في 1956 سنة الاستقلال، لحظة الانقلاب.

الامازيغية من خدعة الظهير إلى الانقلاب وجهل المصير

شكلت سنة 1930، لحظة حاسمة في التاريخ السياسي للمغرب، لحظة انقلبت فيها الحقيقة رأسا على عقب، لحظة بدأت فيها عقارب الزور والبهتان وشوهت حضارة شعب ولغة عمرت عدة قرون. ظهير شريف لتنظيم سير العدالة في القبائل التي تحتكم للأعراف المحلية ولا تتوفر على محاكم شرعية، تحول إلى شهادة ميلاد حركة ضد الامازيغ والامازيغية، (انظر كتاب محمد منيب “الظهير البربري” أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر”). وبفعل هذه الحملة الشنيعة التي تزعمها ما يسمون أنفسهم بالوطنيين وهم شباب أبناء برجوازية حضرية، اغلبهم ينحدر من الأسر المحمية وأندلسية، قاموا بخلق ادلوجة ماكرة سموها” السياسة البربرية الفرنسية” لمحاصرة كل المشاريع التي تقوم بها الإدارة الاستعمارية لصالح الامازيغية، وفي المقابل؛ شحنوا كامل طاقاتهم لدعم فكر عروبي -سلفي وكرسوا له كل وسائل الإعلام والصحافة والنشر والتعبئة، واستغلوا حرمة المساجد حتى يستميلوا ويؤثروا على عقول الامازيغ أنفسهم، المقاومون في الجبال والحواضر. بين عشية وضحاها، أصبح هذا الفكر رديفا للمقاومة والدفاع عن الوطن، على عكس الامازيغية ورموزها التي الصقوا لها غيابيا تهمة التخوين وتشتيت الصفوف والتحالف مع الاستعمار. بالرغم من أن الامازيغ وقبائلهم بعيدون كل البعد عن هذا الظهير، ولم يعلموا به قط. وقد استطاع هؤلاء الشباب أن يستغلوا الحماس الوطني وسياقات أخرى وطنية ودولية، لتعميم صورة سلبية على الامازيغية، وعلى كل من تسول له نفسه الدفاع عنها، وخلقوا إجماعا سياسيا خرافيا سماه الباحث الانثرولوجي المرموق “مصطفى القادري”  في كتاب مهم للغاية ” وطنية باحتقار الذات”.

يقول محمد حسن الوزاني” …وفي القرويين بحضور أكبر تجمهر ممكن من الشباب المناضل الذي تفرق بين صفوف المصلين….نودي بقراءة اللطيف قبل أن يتفرق الناس…صعد عبدالسلام ابراهيم الوزاني إلى كرسي التدريس وفق الخطة المرسومة …وألقى في جموع المؤمنين.. خطبة قصيرة كنا أعددناها…وقد ألهبت النفوس بما لا مزيد عليه حتى صار الناس يزدحمون حول الكرسي وصراخاتهم تتعالى باستنكار السياسة البربرية المشؤومة…وعيونهم تبكي تأثراً….يفضح أمامهم السياسية البربرية”. ويضيف أيضا في ذات السياق ” تتسع حركة اللطيف وتنتشر كقطرة الزيت في الورق….كان كل همها النضال ضد البربرة ودعاتها” من كتاب “مذكرات حياة وجهاد”. لمعرفة هذه المواقف المعادية للامازيغية والمؤسسة لفكر ما يسمى “بالحركة الوطنية”، انظر كتابات (علال الفاسي، عبدالكريم غلاب، محمد الحسن الوزاني وكل مؤسسي كتلة العمل الوطني ثم حزب الاستقلال فيما بعد).

ولابد من الإشارة إلى أن فرنسا أصدرت مجموعة من الظهائر قبل سنة 1930، وتنص كلها على نفس الموضوع أي حول ضرورة إقرار الأعراف الامازيغية، وظهير 16 ماي 1930 جاء فقط لتتميم وتدقيق الشروط الخاصة التي سيتم فيها إصدار الأحكام في تلك القبائل، حيث جاء في ديباجة الظهير بلسان السلطان “محمد بن يوسف” مايلي: ” اعتبارا لكون ظهير والدنا المعظم جلالة السلطان مولاي يوسف بتاريخ 11 شثنبر 1914 قد أقر لمصلحة رعايانا ولسكينة إيالتنا احترام النظام العرفي للقبائل البربرية..وأنه لنفس الهدف أسس ظهير 15 يونيو 1922 القواعد الخاصة المتعلقة بالتفويتات العقارية للأجانب في القبائل ذات العرف البربري والتي لا تتوفر على المحاكم من أجل تطبيق الشرع…”.

هنا يطرح السؤال؛ أين كان هؤلاء الوطنيين في سنة 1914 و 1922 لكي يقرأوا اللطيف في المساجد؟ لماذا لم يعارضوا فرنسا في ذلك الوقت؟ ألن تتضح لهم ما يسمونه بالسياسة البربرية في تلك الظهائر؟  إن استغلالهم لظهير 16 ماي 1930 وتسميته “بالظهير البربري” من أجل تأسيس كيان سياسي ثقافي فكري سموه “حركة وطنية” يناهض الامازيغية وليس الاستعمار، هو ما يكشف هواجسهم وأهدافهم ليتبين أن الحكاية كلها عبارة عن خدعة.

وما الذي ينقص الخدعة لتصبح الحقيقة، إنها القوة التي حصلوا عليها سنة 1956 بعد الاستقلال، وشكلوا الحكومة وحكموا البلاد والعباد بالقهر والاستبداد، وانقلبوا على الامازيغية وكل رموزها لغة وثقافة وحضارة….وتم تعريب التعليم وجعل عروبة المغرب “حقيقة مقدسة” تجندت لها الاحزاب والنقابات وشبكات العائلات والمثقفون كذلك، الذين كانت سيطرتهم قوية جدا في توجيه الخطاب ومركزيته، من علال الفاسي والوزاني وبنبركة وغلاب والقادري وبعدهم الجابري وآخرون… وويل لمن طالب بالامازيغية وأشاد بها، سيصلى بنار التفرقة والعنصرية والسياسة “البربرية الفرنسية”، ويكفي ذكر فقط تهمة إحياء “الظهير البربري” ليصمت الجميع قرنا من الزمن… الامازيغية تساوي “الاستعمار”، حسم الأمر منذ سنة 1930 حسب عزمهم، في وقت مازال الامازيغ يقاتلون في الجبهات ضد مدافع الاستعمار في بادو وصاغروا وايت عبلا وايت باعمران وتازة والريف…

وبعد توقيع معاهدة “إيكس ليبان” في سنة 56، قامت “الحركة الوطينة” وأحزابها بحضر كل المراسيم والقوانين والظهائر التي كانت تنص على تدريس اللغة الامازيغية وخلق هيئات الترجمة وإقرار الأعراف الامازيغية، وبعض المؤسسات المعنية بالثقافة والآثار والحضارة الأمازيغية إبان عهد الحماية، قاموا بإلغائها، بل وأصبحت من المحرم واللامفكر فيه، لدواعي ذكرناه أعلاه، وفي المقابل احتفظوا بقوانين استعمارية خطيرة مثل التي تم بموجبها نزع الأراضي للقبائل والغابات والمياه واستغلال المناجم وغيرها، كما تم تكثيف التعريب في المناهج التربوية وكل مؤسسات الدولة مع الحفاظ أيضا على اللغة الفرنسية وثقافتها ورعايتها واحتضانها في المجتمع والدولة والدبلوماسية، بالرغم من كونها لغة الاستعمار، وهنا تناسى أصحاب اللطيف “إخوانهم البرابر”، كما تم نسيانهم أيضا في توزيع الأراضي السهلية الفلاحية وفي توزيع السلط، بالرغم من استنجاد القصر بالامازيغ والامازيغية مرة أخرى، واستغلالهم فقط للحماية والحيلولة دون سيطرة أصحاب “الحركة الوطنية” على الشعب والدولة. وهذا إن كان يدل على شيء فإنه يدل على حقيقة وجود الامازيغية كقوة سياسية وقضية شعبية، لكن بعد إفراغها من الروح، الروح الثقافية، وجعلها على الهامش تموت في صمت وبطء..

وبهكذا؛ نجح هؤلاء بعد انقلابهم على الامازيغية وبسط نفوذهم على المغرب في  دفع الامازيغية نحو مصير مجهول. مصير كلف ما يزيد عن 50 سنة من النضال والحراك لتصحيح الوضع.

 ألا يجدر بنا أولا المطالبة بهيأة وطنية لإنصاف الامازيغية وجبر الضرر لها، قبل التفكير في أي شيئ آخر..

عبدالله بوشطارت

 

مشاركة