الرئيسية اراء ومواقف المحامي في مواجهة ازدواجية مصادر الشرعية الحقوقية

المحامي في مواجهة ازدواجية مصادر الشرعية الحقوقية

كتبه كتب في 12 مايو 2012 - 10:47

كيف يتمثل المحامي عمله في مهمته المحددة في الدفاع وتقديم الاستشارة ؟ هل يتصور مزاولتها كعمل تقني يقتضي منه تركيب القواعد والمبادئ القانونية الملائمة لحل نزاع أو تأمين مصلحة، لكن ببرودة التكنوقراطي الذي يعتمد حرفيته وكفاءته في حياد إزاء ما يتفاعل مع محيطه المجتمعي ؟

هذا التصور يتعارض من أساسه مع مهمة الدفاع التي تقتضي حدا أدنى من (المعنويات) أو الحرارة الإنسانية. ذلك أن الروح المعنوية، من حيث طبيعتها ومداها، تشكل عنصرا أساسيا في ترجيح موازين القوى بين أطراف الخصومات والمعارك.

أما الكفاءة الباردة، فغالبا ما تكون مفتوحة على أفق الغرور وهي حالة نفسية تتعارض من حيث المبدأ مع مهمة الدفاع عن الغير ومؤازرته.

هذا من ناحية الشرط السيكولوجي لممارسة المهنة. أما بالنظر إلى “الدفاع وتقديم الاستشارة” كمهنة منظمة سواء في شقها الخاص (قانون المحاماة وأعرافها) أوفي جذرها العام (عقد الوكالة) فإن ذلك يعني وجوب ممارستها وفق قواعد ومبادئ وأعراف حددها المشرع والمؤسسة المؤطرة للمهنة (هيئة المحامين). ومعلوم أن القاعدة القانونية، في أصولها التاريخية، هي تحويل قيمة خلقية من مستواها المعياري (الذي يحدد ما ينبغي أن يفعل  أو يترك) إلى مستوى “الواجب العمل به أو الواجب تركه” تحت طائلة الجزاء.

ونظرا لأن القواعد التفصيلية المنظمة لممارسة المهنة كثيرة، فإني سأقصر انتباهي- ليس عن إهمال وإنما لضيق المقام والكفاءة عن الخوض فيها جميعا- على القواعد أو بالأصح المبادئ المعيارية التي جعلها مشرع قانون المحاماة، ومعه النظام الداخلي للهيئة، بمثابة طوبى وأفق يشد نظر المحامي وهو يزاول عمله. يتعلق الأمر هنا بما تنص عليه المادة 3 من قانون المهنة والتي جاء فيها: ” يتقيد المحامي  في سلوكه المهني بمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة والكرامة والشرف وما تقتضيه الأخلاق الحميدة” مع تطبيقاتها التفصيلية سواء لجهة التأديب وتحديد المخالفات والمسؤوليات أو لجهة التنظيم وبيان كيف العمل بها، ناهيك عن “قسم المحامي” المؤدى وفق الصياغة الذي حددها المشرع والذي يفترض به أن يكون سلطة عقائدية توجه وعي المحامي المهني.

إن استحضار هذه الخلفيات السيكولوجية، الأخلاقية، العقائدية، والاجتماعية عند مزاولة المهنة تكشف عن انخراط المحامي الكامل في فضاء مجتمعه .. في تياراته المتدافعة إن على مستوى القيم والأهداف الكبرى أو على مستوى المصالح المباشرة.

فأن تكسب قضية أجير مطرود من عمله لا يقتصر أثرها في الحصول على تعويض، بل قل إن الحصول على تعويض للأجير هو مساهمة في توفير الحماية القضائية للطبقة العاملة ككل، كما أن إقناع المحكمة ببراءة المتهم هو مساهمة في تأمين حريته الفردية وانتزاعه من قبضة جهاز الدولة العقابي الذي لا يستطيع ا لتوقف عن العمل تحقيقا لماهية الدولة.

ما أروم البرهنة عليه من خلال المثلين المذكورين هو أن المحامي، وإن كان يزاول عمله لحساب موكله الخاص، إلا أن عمله مفتوح بالضرورة على الشأن العام وهذا ما يفسر مساهمة المحاماة في توفير نسبة كبيرة من رؤساء الحكومات والزعماء السياسيين والبرلمانيين عبر العالم.

فأن تكون محاميا إذن معناه أن تكون منخرطا في الشأن العام.

إنه مآل تفضي إليه طبيعة المهنة (Sa déonthologie). ولعل استقراء تاريخ المحاماة بالمغرب منذ الستينيات من القرن الماضي يقدم مادة وفيرة عن صحة هذه الملاحظة.

فإلى غاية مطلع الثمانينيات من القرن الماضي كان المحامي – المثل  ذي الإشعاع هو المنخرط  في الصراع السياسي … ثم بعد ذلك بدأ يظهر وينمو مثل المحامي الذي حقق ثراء كبيرا أو سريعا. والآن بدأنا نلحظ بروز طوبى جديدة مؤداها المحامي “معقول” بمعنى الدارجي أي نزيه اليد. فالطوبى المهنية تتلون بما يتفاعل في المجتمع ومن تم استحالة حياد المحامي في مزاولة مهنته. نتيجة عادية – ولا شك – لا تستحق كل هذا العناء في التوطئة والتبرير. لكن هل الأمور واضحة ومتناغمة إلى هذا الحد في فضائنا الحقوقي؟ كيف تنعكس انقسامات المجتمع الثقافية والقيمية على الوعي الحقوقي المهني للمحامي نفسه؟ وبصيغة أكثر عملية .. ماهي المرجعية والمحددات التي ينبغي أن تتحكم في فهم المحامي وتأويله لمضمون الفصل الثالث من قانون المهنة: ما معنى الشرف، المروءة، التجرد، الأخلاق الحميدة؟ هل يرجع في تحديدها لإرث الفقه الإسلامي أم للمواثيق الدولية وقاعدتها التاريخية المتمثلة في الثورة الفرنسية؟

الدفاع عن مبدأ المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة تشرعه المواثيق الدولية – وهي مضمونة بتنصيصات الدستور الجديد – إلا أن الميز بينهما قاعدة محسومة في الفقه الإسلامي بمختلف تلاوينه.

هل انخراط المحامي في الصراع السياسي مدافعا عن الحريات والعدالة الاجتماعية يعد إخلالا منه بقسمه “عدم الحياد عن الاحترام الواجب للسلطات العمومية”؟ أليس الحق في مقاومة الطغيان والاستبداد مكفول بالمواثيق الدولية وإن حرمته بعض الآداب السلطانية؟

كيف يمكن للمحامي أن يكون متجردا في الخصومة القضائية؟ هل هو مطالب بالدفاع عن الحقيقة وبغض النظر عن مصلحة موكله مراعاة منه حصريا للنظام القانوني أم أن مصلحة موكله هي التي تؤطر نظرته للقانون نفسه؟ هل المحامي يتماهى مع موكله أم مع النظام القانوني؟ ماذا لو تعارضت مصلحة موكله مع الأخلاق الحميدة؟

 فالفساد بمفهوم الفصل 490 من القانون الجنائي، فضلا عن جرميته، يعتبر من المعهودات المضادة للأخلاق الحميدة في مجتمع يحيط النسب بهالة خاصة. لكن ماذا عن حق الفرد في التصرف في جسده بحرية ما دام يحمل في ذاته ذرة من مجموع السيادة الوطنية؟

ما معنى أن يكون المحامي مستقلا والمفروض أن يوفر المتقاضي أتعابه؟

الخلاصة أن المحامي إذ يسعى إلى تنزيل التشريع، بمناسبة مزاولة مهنته مع التقيد بمقتضيات الفصل الثالث موضوع المناقشة، يكابد تمزقا حقوقيا وإيديولوجيا … بل وقد تطاله آلة إقصاء مستندة إلى تأويل ذي بعد واحد لأخلاقيات المهنة. ما العمل إذن؟

الجواب التاريخي المعقول هو أن يقوم فضاءنا الحقوقي /السياسي بتسوية نزاع المرجعيات الحقوقية، أن يعيد بناء “العقد الاجتماعي”. وهذه مهمة يفترض أن تنبثق من رحاب كليات الحقوق.

مراكش في 11/05/2012


مشاركة