الرئيسية اراء ومواقف الفقهاء والغناء

الفقهاء والغناء

كتبه كتب في 8 مايو 2012 - 11:56

بين الفقهاء والغناء جفوة قديمة، مردّها إلى الصراع حول السلطة، السلطة على قلوب الناس وعقولهم، فلأن للغناء سطوة على النفوس لا تقاوم، وجبروت على الشعور لا يُبارى، حيث لا ينفع فيه وعظ الوعاظ ولا خطب الدعاة، فقد اعتبر الغناء من طرف فقهاء الدين مصدر “فتنة”، ورأوا أنه هو المقصود في القرآن بـ”لهو الحديث” الذي “يُضلّ عن سبيل الله”.

إنه صراع يعود إلى بداية الدعوة الإسلامية، التي انطلقت في بلد افتتن أهله بالشعر والشعراء والسّجع المنمّق وسحر البيان والبلاغة، مما جعل بلاغة النصّ الديني تدخل غمار المنافسة باستعمال الأدوات البلاغية والمحسّنات البديعية والسّجع، في التصوير والإيقاع حتى أنها  اعتبرت “إعجازا” لا يؤتى بمثله، حيث تحدّى النص القرآني المشككين في مبناه ومعناه أن يأتوا بما يشبه صياغته البلاغية ومضامينه.

مناسبة هذا الكلام، ردود الأفعال السلبية التي كانت أشبه بالإمتعاض، والتي عبّر عنها بعض الخطباء ودعاة التيار الإسلامي المتشدّد، تجاه نجاح فتاة مغربية نبغت بصوتها خارج البلاد، و شدّت إليها عشاق الطرب في مختلف بلدان شمال إفريقا والشرق الأوسط، حتى قيل فيها إنها “رفعت راية بلدها” في هذا المجال، وهو ما جعل الوعاظ يتململون والخطباء يتنحنحون، فـ”رفع الراية” دليل الريادة والتبريز، وعلامة التفوق وشدّ الأنظار، وهو بالذات ما يخشاه الوعاظ الشرسون، الذين ما زالوا يعتقدون أن بإمكانهم وحدهم أن “يضيئوا البلد” بكلام التطرف والخطب الزجرية والفتاوى الماحقة، والواقع أن مخاوف الخطباء في محلها تماما، إذ لا يضاهي قنوات الدعوة الوهابية والتعنيف الوعظي إلا قنوات الفيديو كليب والرقص والغناء على مدار الساعة، وكلما ظهر دعاة جدُد مفوهون فصحاء وأكثر انفتاحا على مواهب المسرح وتقنيات التعبير الجسدي، برز أضعاف عددهم من مطربات الغنج والدلال، اللواتي يذهبن عقول الزهاد وصفوة النساك، فكيف بعوام الناس ودهمائهم.

وكلما كان الداعية شهير الإسم تلقى خطبه وآراؤه إقبال الجمهور، كلما ازدادت نقمته على الغناء والمغنيات، وقد يصل الداعية حدّ الهذيان في هجاء المطربات، مما يدلّ على مدى شعوره بالخطر المحذق به بسبب رواج الغناء وشهرة أهله وكثرة جماهيره، التي لا تقارن بالأعداد المحدودة من الناس التي تحضر خطب الدعاة والوعاظ.

والغريب في آراء هؤلاء الدعاة أنهم لا يأخذون بعين الإعتبار مطلقا قوة الظاهرة التي يواجهونها، ومدى تجذرها في وجدان المجتمع، فالغناء والموسيقى والرقص ليست بالممارسات التي يمكن صرف الناس عنها ببعض الزجر والوعظ الخشن، وذلك لسبب بسيط لا يبدو أن الدعاة والخطباء يدركونه جيدا، وهو أن فنون الغناء والرقص و ما إليه قد لازمت الإنسان منذ الجماعات البشرية الأولى حتى اليوم، لأنها لصيقة بالإنسان تعبّر عن حاجة لا يعوضها الإيمان الديني ولا إقامة الشعائر، وهي حاجة روحية ـ لا دينية ـ تُشعر المرء بقيمة الحياة وتحرك فيه مشاعر يجدُ فيها شيئا غير قابل لا للتفسير العلمي ولا للتأويل الفقهي ولا غيره، إنها حاجة مرتبطة بجوهر الحياة ذاتها وبكينونة الإنسان.

ودون الحديث عن الثقافة المغربية الأصيلة، فإنّ الحضارة الإسلامية ككلّ كانت حضارة غناء بامتياز، حيث إذا كانت النخب في المجتمع الإسلامي خلال القرون الثلاثة الأولى المزدهرة، قد عرفت إقبالا على علوم الفقه والفلسفة والطبّ وعلم الكلام، و بنسبة أقل علوم الطبيعة، فإن الجمهور قد استهواه الغناء حدّ الجنون، بل إن الجاحظ يروي في إحدى رسائله  أن بعض الناس كانوا يشقون ثيابهم ويصرخون أو يرمون بأنفسهم من “حالق” عند سماع الصوت الفاتن والنغم الساحر. كما أنّ أحد المؤلفين الموسوعيين وهو أبو الفرج الأصفهاني، ألف أحد أضخم كتب الأدب في الثقافة الإسلامية، وهو كتاب الأغاني ليُعرّف فيه بألوان الموسيقى وفنون الطرب والغناء التي عرفت حتى حدود عصره، حيث أورد أخبار الموسيقيين والعازفين والمغنين والمغنيات من الجواري اللواتي بلغن درجة عالية من الشهرة والمجد، سواء داخل بلاطات الخلفاء والأمراء وعلية القوم، أو داخل بيوت الفئات المتوسطة.

نحن إذن في الجانب الآخر من العالم الداخلي للإنسان، حيث يتساكن الله مع الحلم والجمال وكلّ الرؤى والمشاعر الدفينة، وحيث تتناغم الرقصة واللحن وإيقاع الكلمات بشكل ساحر، وهو ما يفسّر أن أكثر الناس إيمانا وورعا  ـ باستثناء المتطرفين والمرضى النفسيين طبعا ـ لا يجد بدّا من الإستمتاع بالغناء والرقص والطرب. إنها سنة الحياة التي لا يفهمها بعض الفقهاء والدّعاة من الذين أفسدتهم الإيديولوجيات السياسية والتشدّد اللاعقلاني واللاإنساني،  ورغم أنهم يتلقون الدرس تلو الدرس، فهم لا يعقلون ولا يفهمون لسبب بسيط، وهو أنّ الحقيقة أحيانا لا تلائم مصلحتهم.

 

مشاركة