الرئيسية ثقافة وفن ايكودار .. معْلَمة عمرها 600 سنة تحتضر في صمت بإقليم طاطا

ايكودار .. معْلَمة عمرها 600 سنة تحتضر في صمت بإقليم طاطا

كتبه كتب في 5 فبراير 2015 - 19:32

وأنت في الطريق إلى قبيلة أيت منصور بإقليم طاطا تحس بأن التاريخ يرفع أمامك علامات التشوير المجازية التي توحي بأنك تسير في القرون الوسطى من تاريخ الجنس البشري في المنطقة.

فعبر الطريق المؤدية إلى القبيلة من مدينة تارودانت عبر “تالوين” ووصولا إلى الجماعة القروية لـ “أقا إغان” تجد منشآت أضحت الرياح تهمس في أذن القادمين إليها بأن حضارة إنسانية سكنت المنطقة، ويبعث إليك التاريخ عبقا تستنشقه فيخلف لديك انطباعا بأن هذا المكان كان مليئا بالحياة، ذلك هو شأن المخزن الجماعي لقبيلة آيت منصور والذي يطلق عليه ساكنة المنطقة “أكادير ندو أكادير”.

“مشاهد.أنفو” زارت المنطقة وحاولت استقصاء قصة هذا المخزن الذي أصبح اليوم يحتضر في صمت، ويختزل في مدخله حكاية قبيلة كانت قد اتخذته ملجأ وبنكا آمنا لمالها وتحفها وثروتها ومأكلها، وهو اليوم يقف شاهد عيان بعين واحدة والروح على مشارف مغاردته في أي لحظة.

مخزن جماعي عمره أزيد من 600 سنة

يقع المخزن الجماعي “أكادير ندو أكادير” على بعد 18 كلم من مقر جماعة “أقا إغان”، وعن مركز عمالة اقليم طاطا بـ 90 كلم، واتخذته ساكنة قبيلة آيت منصور مخزنا منذ أن كانت تسكن في أعلى جبل “مدغة” الممتد بالاطلس الصغير في زمن بعيد ثم نزلوا إلى السفح بفعل قلة المياه وانعدم الأمن.

وبالرغم من عدم توفر وثيقة مكتوبة أو شفهية حية حول تاريخ بنائه، إلى أن الساكنة متمسكة على أنه بني قبل الاستعمار البرتغالي وذهبوا إلى أن عمره يزيد على 600 سنة، ويبقى شاهدا على استوطان الإنسان لهذه المنطقة لقرون خلت.

وإلى عهد قريب لم يكن السبيل الوحيد للمرور نحوه سوى مسلك طرقي واليوم وتقريبا منذ حوالي ستة أشهر تم ربطه بطريق معبدة، ويحتوي المخزن على 150 غرفة ولكل غرفة اسم يرتبط باسم عائلة بالقبيلة، مما يدل على أن عدد ساكنة القبيلة حوالي 150 أسرة ولكن بمفهومها القديم التي كانت تحت وصاية الجد والجدة وتضم عدة عائلات في كنفها بحيث يمكن للأسرة أن يمتد عددها إلى ازيد من 40 فردا.

وكانت هذه العائلات تلجأ إلى المخزن لحفظ كل ما له قيمة من ذهب وفضة ومال وأكل وزرع وعسل ووثائق، وبالتالي كان للأسر ارتباط قوي به ولم يكونوا يستغنون عن خدماته أبدا، ويحرص على حراسته شخص يتلقى أجرته بالعين وليس بالنقد سواء الشعير أو العسل، ويقوم هو الآخر ببيعها في الأسواق المجاورة ليحول أجرته إلى نقد.

وبدأ عدد الأسر التي تلجأ إلى المخزن مع توالي السنوات يقل حتى أصبحت إلى عهد قريب حوالي 40 أسرة لتسحب بعدها كل الأسر أرصدتها من هذا البنك التقليدي، ومع توالي السنوات رفعت القبيلة يدها عليه وأصبح عرضة للأهمال.

معلمة تاريخية في طريق الاحتضار

“كل مايوحي بمعالم الحياة أصبحت غائبة عن هذه المعلمة”، هكذا تحدث أحد أبناء المنطقة الذي يشتغل بإحدى محطات الوقود، مضيفا “غادر معظم الشباب والرجال المنطقة نحو الدار البيضاء وأكادير وفاس ومراكش ودول المهجر ولا يحضرون إلى القبيلة سوى في فترات محددة كالأعياد الدينية وفي فترات الصيف”.

واسترسل: “لم تعد الساكنة تأبه لمآثرها وتاريخها الذي يعد هذا المخزن واحدا منها، لقد استفادت عدة مخازن من عملية الترميم ولكن نتسائل عن نصيبنا من ذلك، نتوفر على مقومات سياحية مهمة فنحن نعيش هنا في فج به طقس متقلب ويمكن للقادم أن يتمتع بجمالية الصحراء، وخضرة الواحة ويتذوق العسل الذي كانت منطقتنا معروفة به”.

وأضاف: “الساكنة في قبيلة أيت منصور معروفة بكرم الضيافة وتحتفي بالقادم إليها، وما يحز في أنفسنا أننا مهمشون، نتساءل عن حق منطقتنا في السياحة الوطنية، فلو تم استغلال فقط هذا المخزن واستغلالها كمتحف أو شيء من هذا القبيل الضارب في قدم التاريخ لكان معلمة سياحية بامتياز”.

سألنا عن مفتاح المخزن، الإجابة كانت سريعة: “عند ابن عون سلطة”، كان أبوه الذي كان هو معروفا بالمنطقة بجوده وكرمه، وفضل الاحتفاظ بالمفتاح الذي يخفي وراءه تاريخ قبيلة آيت منصور، فضل الحفاظ على ما تبقى من هذه المعلمة من عبث المخربين .

ويقوم هؤلاء المخربون بسرقة الأبواب الخشبية للبيوت المتواجدة بداخله وبيعها بأثمنة تصل إلى 5000 درهم وتستعمل كـ “ديكور” في الفنادق والاقامات السياحية والفلل، وبالرغم من ذلك فقد دخلت عوامل التعرية خلسة وخربت أجزاء منه بحيث تعرضت بعض من جدرانه للإنهيار، وبدأت معالم الإندثار على محياه التي تنذر بأنه لن يصمد لأكثر من عقد بعد أن قاوم لقرون عاتيات الزمن.

قصة عالم بالقبيلة يخافه الجميع أكثر مما يحترمونه

حاولت “مشاهد.أنفو” الوقوف على حقيقة العلاقة التي تجمع المخزن بالقبيلة وبتاريخ تشييده، وكان كل الذين التقينا بهم يؤكدون أن من سيمنحنا التفاصيل هو “العالِم” .. بحثنا عن العالم ولغزه ولم نجده، كانت الساكنة تتحدث عنه بخوف كثير، لاتجرؤ على مسه بسوء، فهو الحامل لاسرار المخزن يقولون أنه دوّنها في كتاب له، وهو أحد الزهاد الاتقياء بالمنطقة ويدعى سي الحسن الطالبي المعروف بآيت ايحيا.

نسجت حوله أساطير تؤمن الساكنة بصحتها ولا تجادل في ذلك كثيرا. يقول حسن “كان العالم في وقت ماض فقيها بإحدى المساجد التي تبعد عنا مسافة يوم ونصف مشيا على الأقدام ويوم عيد الأضحى كان الكل يجتمع في القبيلة ويعتبر موعدا سنويا نحترمه جميعا، كان العالم يؤدي بأهل المنطقة التي كان بها إماما صلاة العيد وينحر أضحيته ثم يغادر وكنا نتفاجأ بحضوره صلاة الظهر مع الجماعة في مسجد الدوار ونعلق على ذلك “الله أكبر .. الله أكبر”.

مخزن يوثق للعلاقات الانسانية بالقبيلة

استطاع المخزن أن يلعب دور الموحد لقبيلة آيت منصور ولم يدع أيامها تمر سدى، فجعل أغلبها تطبعه الفرحة باللقاء، والتجمعات التي تدعى “المعروف” واحدة من هذه العادات التي جمعت الساكنة على موائد الطعام ونسجت العلاقات بينهم، وكانت مكانا لتبادل الحديث عن المصالح والاتفاق على انجازها.

وكانت قبيلة آيت منصور تنظم ثلاثة من هذه التجمعات (المعروف) ولتوفير المال لشراء الأضحيات، فقد قررت الساكنة وضع أربعة جرار على شكل صناديق التوفير بمدخل المخزن؛ واحدة لموسم سيدي بن عيسى والثانية لموسم سيدي بن يعقوب والثالثة لموسم سيدي علي الحسن الذي يوجد بأعلى الجبل تقريبا ويبعد عن القبيلة بحوالي 900 متر.

والرابعة مخصصة لمسجد الدوار الذي كانت به مدرسة عتيقة يضرب بها المثل في استقطاب طلبة العلوم الشرعية، وبمرور الزمن بدأت أعداهم تقل حتى اندثرت هذه المدرسة وأصبح المسجد اليوم مخصصا فقط لأداء الصلاوات الخمس.

غيور من أبناء المنطقة يصارع طواحين “الدانكيشوط” الهوائية

تحدث “الحسن” عن المجهودات التي يقوم بها شاب من أبناء المنطقة مقيم بالدار الأوربية لترميم المخزن، قائلا: “شاهدنا الشاب وهو يقوم بأخذ مقاييس المخزن من زوايا متعددة، وهو مهتم به. ففي كل زيارة له للمنطقة في فصل الصيف يقوم بأبحاثه وكان يحدثنا عن مجهوداته لإدخال المخزن وتصنيفه من التراث الإنساني لتاريخه ودوره في المنطقة كما حدثنا عن عمله المتواصل لإقناع منظمة اليونسكو بالاعتراف به”.

هذا الشاب واحد من الذين يندبون حظ هذه المعلمة التاريخية، ومعه شباب من المنطقة التقتهم “مشاهد.أنفو” وتحدثوا عن مخازن استفادت من عملية الترميم، من قبيل مخزن “إكودار أصرار” و”أكودا أيت كين” بتكموت وطالبوا وزارة الثقافة للتدخل لانقاذه حتى لايكون عرضة للضياع، كما حدث لمخزن “إميضر” وأصبح اليوم أحجارا يتنافس البناءون على سرقتها لإدخالها في الجدران.

نصيبنا من السياحة: “صفر على عشرة”

هذا هو التنقيط الذي وضعته الساكنة في ورقة الانجاز، فكل مقومات السياحة الايكولوجية متوفرة بأرجاء القبيلة، فهنا تلتقي الصحراء بالمناطق الرطبة في تآخ وود واحترام، وفي كل يوم يرسم الغروب معالم يوم جديد قبل أن تسطع شمسه.

عيون مائية بالرغم من كونها مرتبطة بالتساقطات المطرية إلا أنها بالمقابل تبقى تغذي جزء من الواحة التي تعرضت هي الأخرى للإهمال، كثبان رملية بمقربة من الواحة، جبال ترسم في السماء مجسمات تغري بنصب الخيام وقضاء الأيام، ولكن الساكنة تشتكي أن نصيبها من السياحة صفر في مخططات التنمية.

وفعلا لم نلمس في المنطقة ما يوحي بأن السياح يمرون من هنا، وتحدثت الساكنة عن مقومات أخرى؛ فمغارة “افري ارزيكن” تغري بالزيارة وهي تمتد لمسافة لم يستطع أحد لحد الآن سبر أغوارها، والدوار القديم “مدغة” آية في الجمال فهو يوجد على حافة جبل بسور يشبه سور مراكش وقد نذهب بعيدا ونشبهه بسور الصين العظيم.

والواحات ممتدة في الأفق، من هناك يبدو منظر بانورامي من الأعلى يشد الأنفاس، ولايترك للعقل فرصة في التفكير في شيء سوى “الحرية” حيث تمتد الرؤية نحو الأفق السحيق.

تساؤلات مشروعة للساكنة

ننقل هنا في الأخير مجموعة من تساؤلات ساكنة المنطقة، أولها “مانصيبنا من المخططات السياحية؟ ومانصيبنا من برنامج حماية المآثر التاريخية من الاندثار؟ ومانصيبنا من برنامج تهيئة الواحات؟ وما نصيبنا من ثروة هذا الوطن؟”، كلها تساؤلات مشروعة لساكنة اختارت أن تكون حاجزا طبيعيا للحدود المغربية الجزائرية، وفضلت استوطان المنطقة متحدية الطبيعة صانعة لنفسها مجالات للحياة ستكون أفضل لو تمت الإجابة على تساؤلاتها.

إنجاز : سعيد مكراز

في الصورة : مخزن “أكادير ندو أكادير”

مشاركة