الرئيسية اراء ومواقف التلميذ الزبون

التلميذ الزبون

كتبه كتب في 11 أبريل 2012 - 13:07

في نقد التعليم الخصوصي بالمغرب

يدون تاريخ التعليم بالمغرب بعناية كبيرة أهمية الدرس الذي قدمه التعليم الخصوصي لأجيال ما بعد الاستعمار العسكري للمغرب، ويشير إلى قيمة الممانعة التي مارسها لإذكاء روح المواطنة وزرع ثقافة التحرر من الأطاريح الاستعمارية، إذ وقف الكثير من الوطنيين في وجه سموم المستعمر التي سعى إلى زرعها من خلال مؤسسات التربية والتعليم.. فكان الصراع على أشده بين الطرفين: يريد المستعمر القضاء على الثقافة واللغة وأهم ملامح الشخصية المغربية.. ويريد الوطنيون أن يواجهوا ذلك بنفس الوسائل من أجل الوقوف في وجه المستعمر ودحض أكاذيبه.. فكان الصراع على ضاريا بين الطرفين انتهى بتدشين سلسلة من المدارس الحرة بدءا من شمال المغرب إلى جنوبه، فكانت نبراسا ألهب حماس الشعب، وساهم في بلورة نخبة من المثقفين أرسوا فيما بعد دعامات المغرب في ميادين السياسة والثقافة والاجتماع والعلم.. فأين نحن اليوم من هذا المستوى؟ هل يمكن التعويل على التعليم الخصوصي في خلق شخصية مغربية قادرة على مواجهة الصعاب التي تحيق بالوطن؟ هل المستثمرون اليوم في مجال التربية والتعليم يعرفون معنى المؤسسة المُوَاطِنَة أم أنهم مجرد مستثمرين لا يطمحون إلا إلى الربح المادي السريع في مجال حيوي وخطير يمكن لأي خطأ أن يفسد أمة بحالها؟

ـ1ـ

لم أكن أعتقد إبان كنت طالبا بأن ترديدي لشعار: “… والبديل الحقيقي.. تعليم شعبي ديمقراطي” سيفلس الآن إفلاسا رهيبا، فالزمن الذي يفصل بين نقاشات الحلقة الطلابية وزمن التدريس اليوم، لا يعدو أن يتجاوز العقد تقريبا! كم كنت أومن إيمانا شديدا، بمعية عدد من “رفاق الأمس/مخزن اليوم”، بأن جدية الشعار في زمن لم يفلس فيه التعليم كليا، كانت أوضح من صوت بومة في الليل.. سيما وأن النزيف كان في بدايته آنذاك.. لكنه لم يجد طبيبا مؤهلا يوقفه في البداية إلى أن اصْفَرَّ الجسد وتآلفت عليه صنوف المرض.
تطور الزمن فصار المغرب يعيش اليوم تجربة ممارسة تعليمية مزدوجة: التعليم العمومي، والتعليم الخصوصي.. بما في ذلك من مفارقات صارخة.

فهل يمكن أن يكون التعليم الخصوصي بديلا لفشل التعليم العمومي؟ هل يتوفر على البنية التحتية الكافية لذلك؟ هل يستطيع أن يتخلى عن أساتذة التعليم العمومي؟

ـ2ـ

يشتغل التعليم الخصوصي بالمغرب ضمن سياقات يسودها الكثير من الغموض والهواية التربوية (ضد الاحتراف التربوي)، إنه يقوم على أكتاف أساتذة التعليم العمومي من ذوي الخبرات البيداغوجية الكافية، والكفاءة المشهود بها، والقدرة على تحصيل النتائج الجيدة التي تهم مستثمري البيداغوجيا إلى أن أضحى البعض منهم مجرد “سُوَّيْعَاتِي” تتقاذفه بنايات المؤسسات الخصوصية، وحولته عائدات الساعات إلى كائن جشع يجمع المال بكل شراهة.. فما الذي يدفع “أستاذ التعليم العمومي/الخصوصي” للقيام بهذه اللعبة المزدوجة؟
إذا تأملنا بنية مؤسسات التعليم الخصوصي على مستوى هيئة التدريس نجد ما يلي:

ـ التعاقد مع أساتذة التعليم العمومي للقيام بإنجاز دروس كل الأقسام التي يشملها الامتحان الجهوي أو الوطني الموحد بالنسبة لكافة المستويات والتخصصات.

ـ توظيف أساتذة آخرين للأقسام التي لا يشملها هذا النوع من الامتحانات.

إن أمرا عويصا كهذا يجعل أساتذة التعليم العمومي الرسميين يعانون الكثير من أجل تجاوز أخطاء زملائهم غير الرسميين الذين تجد البعض منهم غير ملم ولو بأبسط قواعد البيداغوجيا والمذكرات والمقررات المتعددة للمادة الواحدة.. وتنقصه الخبرة الكافية لقيادة الدرس. فبعض هؤلاء يشتغل بأجر زهيد، وهو يحارب البطالة التي يعاني منها غالبية خريجي الجامعات المغربية، وبالتالي فهو يعتبر القسم مجرد مرحلة انتقالية.

ـ3ـ

يظهر أن حجم المؤسسات الخصوصية بكافة مستوياتها تختلف من حيث التموقع الجغرافي الذي يحدد عينة “التلاميذ ـ الزبناء”:

ـ فما يقع منها في نطاق الأحياء التي يسكنها الأغنياء، تكون شروط ولوجها غير متاحة للجميع سواء على المستوى المادي أم اللغوي… وهذا ما يجعل زبناءها من فئة يمكن أن تكون قد أَلِفَت متابعة تعليمها منذ مراحله الأولى في إطار المنظومة التعليمية الخصوصية، ويطغى على مرتاديها التوجه الفرنكوفوني.. فقد تجد بعضهم لا يستطيع كتابة جملة مفيدة بالعربية، والبعض منهم يأتي لتزجية الوقت معول على النجاح بدعوى أنه يشتريه مسبقا…

ـ ومنها ما يتموقع في نطاق الأحياء المتوسطة أو الفقيرة، إذ يتميز بالاكتظاظ وبانخفاض التسعيرة الشهرية وعدم تجانس مستويات التلاميذ، وهذا ما يجعل زبناءها من فئة مغايرة للأولى، إذ يمكن أن نعثر بينهم على المنقطعين عن الدراسة أو المطرودين.. إذ يطغى على هذه الفئة اليأس، وناذرا ما تجد بينهم فسحة أمل…

تستخدم الفئة الأولى من المدارس، طرقا تسويقية احترافية تجعل أولياء التلاميذ يقتنعون بإرسال أبنائهم إلى مدارس شبيهة بفنادق من عيار مصنف، فالأقسام نظيفة، مجهزة بسبورة خشبية وأخرى بلاستيكية، تتوفر على جهاز تلفزيون، بها مقاعد خاصة بكل تلميذ.. كما أن مرافقها العامة شاسعة وبها قاعة عروض متعددة الوسائط، وقاعة للرياضة، ومكتبة محترمة، وتسهر على أن يكون لها برنامج سنوي للأنشطة الموازية.. والذي لا تخلو طبعا من جرعات دعائية زائدة… أما الفئة الأخرى من مؤسسات التعليم الخصوصي، فغالبا ما تكون دون مستوى المؤسسات العمومية، إذ تتميز بضيق الأقسام، وضيق البناية ككل، وتفتقر إلى التجهيزات الأساسية اللازمة لملامسة الحد الأدنى من كل عملية تعليمية تعلمية وكذا بلوغ جزء من الأهداف القمينة بتسهيل بلوغ الكفايات المسطرة لكل درس… إن البنية التحتية تشكل عماد التعليم، فأي تساهل في إعطاء التراخيص أو المراقبة سيساهم في خراب ما تبقى من نقطة ضوء في ظلام غرفة إنعاش التعليم…

ـ4ـ

إذا ما قمنا بتتبع مسارات أثمنة ولوج أقسام التعليم الخصوصي ومنعرجاتها ومنخفضاتها، يظهر لنا أن الكثير من الآباء يفاجئون في بداية ونهاية كل موسم دراسي بأن أبناءهم ـ خصوصا في التعليم الأولي ـ لم يستهلكوا قيمة ما أدوه في بداية السنة ـ دون معرفة التفاصيل ـ كتعويض عن الأدوات المدرسية، إذ تبدأ سومة ذلك من 500 درهم لتتعداها إلى 900 درهم.. كما أن الآباء يدفعون أيضا، وبطريقة كلية مع بداية كل شهر، ثمن تمدرس أبنائهم المزعوم عن شهري شتنبر ويوليوز بكافة مستويات التعليم الخصوصي دون أن يتلقى الأبناء الدروس بشكل منتظم وفعلي نظرا لعدم تسلم كافة الأساتذة الرسميين استعمالات زمنهم، والقيام بإجراءات تراخيص الممارسة التربوية بالمدارس الخصوصية، ولأسباب أخرى.. وبذلك تسلك إدارات هذه المؤسسات سياسة تَحَايُلِيَّة على الآباء والتلاميذ غالبا ما يتم تبريرها بدروس الدعم أو المراجعة أو الإعداد.. أو قد يلجؤون إلى تقديم الأساتذة بشكل يشبه السقي عبر التقطير، إذ يتعرف التلاميذ في كل يوم أو في ظرف ثلاثة أيام على أستاذ مادة معينة ويعودون إلى منازلهم غير غانمين طبعا… فأين دور جمعيات الآباء التي يصنعها بعض أرباب المدارس الخاصة صنعا، بل منهم من لا يقوم باستدعاء الآباء مكتفيا بالبعض المتواطئ منهم؟

نشير أيضا إلى أن بعض مؤسسات التعليم الخصوصي الأولي لا تتوفر على بعض التجهيزات ولا المساحات الضرورية لمزاولة بعض الأنشطة المهمة للنمو الجسدي والذهني والعقلي للأطفال كالرياضة ومحترفات الرسم والتعبير الجسدي وغيرها.. وهو ما لا يتوفر أيضا في بعض مؤسسات التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي خصوصا ما يتعلق بملاعب التربية البدنية.. فأين المراقبة هنا؟ وأين الوفاء بدفتر التحملات؟

ـ5ـ

تشير الوقائع إلى أن التعليم الخصوصي قد صار يسوق الوهم للناس، فالكثير من مؤسساته تشتغل في إطار غامض من الناحية البيداغوجية، وكثير من الخصاص على مستوى الأجهزة خاصة ما يتعلق منها بتجهيز مختبرات المواد العلمية وبالمكتبات.. لذلك لا بد من العمل على تقوية المراقبة على المستويات التالية:

ـ على المستوى المالي: مراقبة الضرائب، إحداث قانون يحدد تسعيرة موحدة للمتمدرسين بالقطاع الخصوصي بحسب المستويات، توحيد أثمنة الساعات بالنسبة للأساتذة…

ـ على المستوى البيداغوجي: مراقبة أهلية ومستوى الأساتذة والإدارة التربوية، ومراقبة الامتحانات خاصة وأن نقط المؤسسات الخصوصية تعرف نفخا مبالغا فيه مما يقوض مبدأ تساوي الفرص وديمقراطية التعليم فقد أصبحنا أمام عملية منظمة ومفضوحة لبيع وشراء النقط، بل هناك مؤسسات أصبح الناس يوجهون إليها أبناءهم من أجل ضمان نقطة متميزة سواء عن طريق النفخ أو طرق أخرى تلجأ إليها الإدارة بتواطؤ مع بعض الأساتذة.. ضدا تماما على المؤسسات العمومية التي تحترم الامتحان إعدادا وتصحيحا كما يلتزم الأساتذة بإعادة أوراق الامتحان بعد إطلاع التلاميذ عليها إلى الإدارة، الشيء الذي لا يتوفر لدى الكثير من مؤسسات التعليم الخصوصي التي يَفِرُّ بعض زبنائها من اجتياز الامتحانات لأنه يضمن نقطة متميزة دون اجتيازها في بعض الأحيان.

ـ على المستوى التربوي: ناذرا ما تقوم مؤسسة تعليمية خصوصية باللجوء إلى مجالس الانضباط أو قرارات التوقيف المؤقت عن الدراسة أو الطرد، وهذا لا يعني أنها تمتلك خطة تربوية مغايرة للمؤسسة التربوية العمومية التي تتفوق عليها في أمور الضبط التربوي، ولا يعني أيضا أنها لا تتوفر على مشاكل تربوية، بل المسألة ببساطة تتلخص في كونها تعتبر التلميذ زبونا، فهي لا تراه منفصلا عن جيب أسرته.. وبالتالي فهي تدفع كرة المشاكل التربوية إلى نهاية السنة. إن الكثير من الأساتذة يثيرون صراحة مشاكل الشغب والممارسات اللاتربوية السائدة بالكثير من هذه المؤسسات، ويشيرون باستياء كبير إلى تقاعس الإدارة عن حل هذه المشاكل.. بل، إن مدراء بعض المؤسسات الخصوصية يشهرون ورقة التعاقد التربوي والأخلاقي في وجه الأستاذ عندما يستفحل الأمر وينسحب.. فينصاع للضغط ويكون التلاميذ هم الضحية.

ـ على المستوى اللغوي: هناك مؤسسات تسوق للغات الأجنبية بشكل سلبي على حساب اللغات الوطنية مما يجعل الأمر يتجاوز حدود ما هو تربوي إلى ما هو إيديولوجي مستغلة بذلك لهفة بعض الأسر التي تلح وتحب أن يتعلم أبناؤها اللغات الأجنبية ولو أدى بهم الأمر إلى الانسلاخ عن اللغة الأم التي تشكل المدخل الأساسي للهوية.. إن أية دعاية تتجاوز حدود ما هو وارد في المقررات الدراسية، من شأنه أن يعطينا تلاميذ لا يستطيعون الكتابة باللغة العربية مثلا.. إن جو التعددية اللغوية الذي يسلكه المغرب بصفته بلدا منفتحا على العالم بكل لغاته وثقافاته، يستغله بعض المستثمرين في مجال البيداغوجيا من أجل عدم احترام الهوية المغربية وهدمها وكأننا نكون أجيال لا نريدها أن تبقى هنا!
ـ على المستوى السياسي: يظهر أن هناك أهواء ونزعات كثيرة تتقاذف تلاميذ مؤسسات التعليم الخصوصي، بعضها مؤطَّر وغالبيتها العظمى متروكة للصدفة.. إن البعض منها يخضع لتدريس ديماغوجي يتحول بعض الأساتذة بموجبه إلى أصحاب فتاوى رغم أن موادهم لا تتيح لهم ذلك، والبرامج والمقررات لا تتقاطع في إطار التدريس بالمجزؤات مع ذلك أيضا.. أما الأغلبية غير المؤطَّرة فتهب عليها نسائم الموضة والتقليعات والألبسة والممارسات المتعددة من الشارع ومن التلفزيون ومن الانترنيت.. مما يدق بالفعل ناقوس الخطر، ويجعل التعليم الخصوصي بمثابة الراقص فوق طبقات صخرية تكْتونيَّة، يتهدده الخطر بشكل مفارق: إما عبر الانفتاح المتطرف الذي قد يصل إلى أقصى تمظهراته المتجلية عبر تعاطي المخدرات والفهم المغلوط للحرية الشخصية.. أو الانغلاق المتطرف الذي يعتبر الجميع موبوءا حد التقوقع والاستسلام اليائس أو عبر ردود الفعل العنيفة.. إن هذا الصراع ينعكس سلبا على التلميذ والأستاذ والإدارة، إذ يتلقى كل طرف نصيبه منه كيفما كانت وضعيته.

ـ على المستوى القانوني: يجب على الدولة التفكير بجد في وضع قانون يؤطر التعليم الخصوصي بالمغرب مراعية بذلك كافة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمالية والإيديولوجية والتربوية والسياسية.. كي لا يبقى قطاع حيوي مهم يسوق الوهم للمغاربة!

أظن أن المَخْرَج الكفيل بحل التناقضات الصارخة للتعليم المغربي عامة، والخصوصي خاصة، يتأتى عبر مداخل التأطير المشروع داخل المجال المؤسساتي، وخلق مناصب للمتابعة النفسية والاجتماعية عبر تكليف أساتذة لهم القدرة والتكوين الكافيين على التشخيص والمعالجة.

إن التعليم بدون خط إيديولوجي واضح لا معنى له.. بل قد يصبح المتعلم مجرد ببغاء يردد الدروس ويتردد على المواد ويقتل الساعات الكثيرة قتلا… لقد أصبح التعليم الخصوصي بالمغرب يسوق الكثير من الأوهام للمغاربة، ويساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في التنقيص من قيمة المؤسسة التربوية العمومية، ويخلق جيلا له ميزات ثقافية مختلفة، ويساهم في تكريس الفوارق الطبقية، ويقوض مبدأ المجانية والتعميم والإلزام، ويبلور “نخبة” هجينة سيحصد المغرب بدون شك ويلات تسييرها لأمور البلاد مستقبلا…

إن من يعول على القطاع الخصوصي في حل مشكلة التعليم بالمغرب، وَاهِمٌ جدا.. فالحل يكمن في إعادة الاعتبار للمدرسة العمومية من خلال قيم المساواة ومبدأ تكافؤ الفرص وتوحيد السياسات البيداغوجية والمراقبة بكافة أشكالها.. ومن يريد أن يسير عكس التيار، فلينتظر العاصفة.

مشاركة