الرئيسية مجتمع حدث لم يكن يتوقعه أحد: مغاربة يذبحون الكلاب في عيد الأضحى احتجاجا على …..

حدث لم يكن يتوقعه أحد: مغاربة يذبحون الكلاب في عيد الأضحى احتجاجا على …..

كتبه كتب في 5 أكتوبر 2014 - 18:54
قبل 33 سنة من الآن، وبالتحديد في أكتوبر1981، حدث ما لم يكن يتوقعه أحد. في يوم عيد الأضحى الذي صادف السنة نفسها، قرر إدريس البصري أن يعطي أوامر صارمة إلى كل الأجهزة الأمنية لتعذيب سكان منطقة كلميمة. كل ما في القصة أن الملك الراحل الحسن الثاني- أمير المؤمنين- كان قد أعلن أنه سينوب عن أمته في ذبح أضاحي العيد، بسبب موجة الجفاف الطاحنة التي ضربت المغرب في تلك الفترة. بطبيعة الحال، كانت بعض الصراعات الماحقة بين الحسن الثاني والجيش وأحزاب اليسار قد هدأت بعد «الإجماع الوطني» الشهير حول قضية الصحراء المغربية لكن مع ذلك كان المد اليساري مازال متغلغلا في مسام «الثوار» وفي مسام الطبقات المسحوقة التي وجدت نفسها خارج اللعبة في مغرب ما بعد الاستقلال. 

في غمرة كل ذلك، أصيب المخزن وسكان كلميمة، على حد سواء، بالذهول يوم عيد الأضحى سنة 1981، لما وجدوا كلابا مذبوحة علقت على أبواب قصرين في المدينة، فهم الأمر من لدن «المخزن القوي» أنه عصيان لأوامر أمير المؤمنين وتمرد صريح على السلطة المركزية، فيما لم يصدق السكان أن في بلدتهم الهادئة، هدوء الواحات في الليل، من يقدر على فعل ذلك.
ولأن من طبائع المخزن أنه لا ينسى، فقد ألفى الفرصة ملائمة لتصفية حسابات قديمة مع بعض «الثوار القدامى» الذين قاطعوا استفتاء تمديد الولاية البرلمانية لتصبح 6 سنوات بدل 4 سنوات، وبعدها قادوا حملة واسعة وشرسة للتصويت بـ»لا» على الاستفتاء المتعلق بتخفيض سن ولي العهد. وعلى هذا النحو، اعتقل واختطف العشرات من أهل المدينة في السنة نفسها ومارس في حقهم مختلف صنوف التعذيب والتنكيل(الصعق الكهربائي وبتر الأصابع والتجويع) خلال أيام عيد الأضحى من سنة 1981.
وفي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن الملف طوي، وعادت الحياة إلى مجراها العادي، عاد البصري بعتاده الثقيل إلى المنطقة، وبالضبط إلى منطقة«تاديغوست» لينكل بأهلها بسبب معلومات وصفها الضحايا بالمغلوطة حول تورطهم في «تعليق الكلاب» ضدا على قرار الملك الراحل الحسن الثاني.
اليوم، استحالت المأساة إلى قصائد شعرية وإلى ذكريات موغلة في النوستالجيا الحزينة..يقول الشاعر عمر الطاووس في قصيدة بالأمازيغية، نقدم لها ترجمة «غير أمينة»:
كم من زمن أسود تربص بنا لكنه فات
نحمد الله أن العصا لم تعد تجلد ظهورنا
واقعة الكلاب حفرت عميقا في نفوسنا
وتشتت أبناء المدينة، فروا، تفرقوا من شدة الرعب
..نمضي الآن البلاد في حاجة إلى فرسان أشداء
نريد أن تتفتح الزهور في جراحنا
«المساء» تعيد تركيب أحداث «تافسكا 1981»، وتفتح جرحا مازال غائرا في وجدان وأذهان سكان المنطقة، وتجمع شهادات تنشر لأول مرة حول التعذيب الممنهج الذي تعرض له سكان المنطقة بسبب حدث طريف لكنه ذو مغزى عميق.

الدرك يعتـقل ويختطف العشرات مــــن سكان مدينة كلميمة

الضحايا عذبوا بالصعق الكهربائي والشيفون وبتر الأصابع

في شهر أكتوبر من سنة 1981، وبينما كان المغاربة يهمون بالاحتفال بعيد الأضحى، كانت مأساة حقيقية تحلق فوق رؤوس أهل كلميمة، وتنغص عليهم عيشهم وتفسد أجواء الفرح بالعيد. اجتمعت كل المتناقضات، يومها، عند أهل كلميمة، ففي عز الفرح عاشوا اليأس ومحقتهم ماكينة البصري التي لم ينج منها أحد. كل ما في الأمر، أن الملك الراحل الحسن الثاني، أعلن قبل حلول عيد الأضحى لسنة 1981 أنه اعتبارا لحالة الجفاف التي اجتاحت المغرب، لن يقدر المغاربة على ذبح الأضاحي حفاظا على الثروة الحيوانية المغربية وسيكتفي، كأمير للمؤمنين، بذبح كبشين إحياء للسنة الإبراهيمية. يوم العيد، استفاقت مدينة تحاصرها الجبال من كل اتجاه، على وقع الخبر التالي: مجهولون يذبحون كلبين ويعلقانهما على قصرين في المدينة.

عبارات مسيئة
جاءت الأوامر سريعة من طرف كل أجهزة الدولة لتعذيب كل من حامت حوله الشكوك بالتورط في ذبح الكلاب وتعليقها وكتابة العبارات المسيئة للنظام. كان «المخزن» إلى ذلك اليوم يحمل في ذهنه ذكريات سيئة عن سكان المدينة، الذين وجهت إليهم أصابع الاتهام بكونهم كانوا يريدون قلب النظام، بل لأن الصناديق المخصصة للاستفتاء على تمديد الولاية البرلمانية لتصبح ست سنوات  بدل أربع سنوات عام 1980، عادت فارغة عن آخرها.
حملة الاعتقالات التي دشنتها عناصر الدرك الملكي، في الساعة الواحدة ظهرا، كما تقول الشهادات، لم تستثن أحدا، إذ تحولت كلميمة إلى سجن كبير. الكل مدان حتى تثبت براءته، والبراءة، بكل تأكيد لن تثبت حتى مرور عشرة أو عشرين يوما من الاعتقال والتعذيب المهين. بدأت القصة، باعتقال الجزار الذي كان يعمل بـ»فم القصر» بتهمة محاولة محو آثار التعليقات التي نحتت على الجدار، والحال أن الشيخ هو الذي أوعز له بفعل ذلك «درءا للفضيحة». تقول زوجة الجزار «بنحساين هدة» «الذنب الوحيد الذي اقترفه الجزار هو أنه قام بمسح تلك العبارات بطريقة تلقائية، لأنه كان أميا ولا يعرف أي شيء عن مضامين ما كتب على الحائط. اقتادوه بـ«وحشية»إلى مركز الدرك الملكي، وبقي هناك عشرة أيام تعرض خلالها للصعق الكهربائي.
بعد الجزار حان دور اعتقال شبان صغار لا تتجاوز أعمارهم في تلك الفترة 18 ربيعا. قدم أعوان السلطة المنتشرون في كل مكان، تقريرا مفصلا عن الشباب الذين يجتمعون في الليل وعن نوعية الأنشطة التي يزاولونها، وحدد بشكل دقيق أماكن تواجدهم، وحتى نوعية «الجوانات» والكحول التي يشربونها خلسة حينما تأوي البلدة إلى الصمت. في غمرة ذلك، استدعي كل الشباب إلى التحقيق، ومورس ضدهم التعذيب لانتزاع الاعترافات والإقرار بدورهم في تعليق الكلاب، إذ انصبت كل أسئلة التحقيق على الأنشطة التي يزاولونها في الليل وعن نوعية النقاشات الدائرة بينهم. في التصريحات التي أدلى بها هؤلاء الشباب في محاضر تتوفر»المساء» على نسخة منها يصرح الشباب، كل الشباب، بأن لا صلة بينهم وبين ما كتب، وهناك من اعترف، تحت الضغط الرهيب أن أعضاء حزب التقدم والاشتراكية كانت تصرفاتهم مشبوهة وتثير الكثير من الشكوك.
تواصلت»العصا الغليظة» مع سكان مدينة كلميمة، والتحقت أفواج جديدة بمكاتب التحقيق، وحاصرت أسئلة المحققين مرفوقة بوابل من السباب والشتم والضرب والركل، سكان المنطقة، والكل، في زحمة هذا النقع الكثيف، صار متهما. قمة الغرابة، ظهرت عندما شرعت قوات الدرك الملكي بالبحث عن أطول سكان مدينة كلميمة نظرا لأن الكتابات الحائطية كانت في مستوى عال من القصرين الاثنين. في المرحلة التالية، طلب من أعوان السلطة أن يأتوا بلائحة الطلبة الذين يدرسون خارج المدينة، إذ كان يسود الاعتقاد لدى»المخزن» أن هؤلاء الطلبة الحاملين للفكر الثوري من الممكن أن يقوموا بتعليق الكلاب وتوجيه رسائل سياسية «لمن يهمه الأمر». والذي لم يفهمه المخزن أن العبارات المنحوتة بـ»البانتور»-الصباغة-، صيغت بجمل ركيكة وبخطأ لغوي فادح يجمع بين المثنى والجمع بمعنى أنه إذا كان الطلبة حقا وراء الكتابة، فليس بمستطاعهم أن يسقطوا في خطأ مثل هذا، اللهم إذا كانت هناك حيلة للتمويه خشية بطش السلطة.

«المخزن يمهل ولا يهمل»..
بالنسبة للضحايا الذين التقتهم»المساء»، فإن تعليق الكلاب على القصرين كان فعلا مدبرا من»طرف الأجهزة السرية» نفسها، وهو الطرح الذي يدافع عنه الشرويطي المرغادي. يقولون إن طبيعة المخزن آنذاك لا تعدو كونها»يمهل ولا يهمل». وبالفعل لم يمهل «المخزن» طويلا سكان كلميمة بسبب مشاركتهم في كل الأنشطة المضادة لنظام حكم الحسن الثاني، وعلم «الكلميميين» دروسا في الانضباط. يشرح عدي ليهي، وهو من الضحايا إذ قضى أطول فترة في الاعتقال بمعية سبعة من الضحايا الآخرين، أن تعليق الكلاب كانت خطة مدروسة المقاصد من طرف السلطات المركزية: «كولميمة من المناطق التي أدت وتؤدي ضريبة الاختلاف والدفاع عن الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، أما عن السؤال فأسلوب تعليق الكلاب لم يكن من شيم هؤلاء السكان ولا يتلاءم ونهجهم السياسي.  ضحايا تفسكا ” عيد الأضحى ” 1981 ومعهم سكان المنطقة لهم كل الأدلة على أن الأيادي الخفية هي التي كانت وراء الفعلة الشنيعة بالكلاب وبالمنطقة  (الشمس لا تغطى بالغربال في كولميمة ولا تصبغ الحمير فيها). لا يعقل أن يقوم بهذا الأسلوب الجبان من كان أجداده وراء إرساء  نظام  السقي «مـــســو»’ ومن قاوم والداه نظام الحماية بالسلاح ومن استلهم الوحدة من التنوع من الرقصات الجماعية والمختلطة وتمتع  بنغمات بــــايـــــبــــي و أبــــايــــدا».
وبينما كان السكان في كلميمة يفاوضون ذاكرتهم لنسيان المآسي التي تربصت بهم سنة 1981، انتقلت حملات التعذيب والاختطاف إلى منطقة قريبة تسمى «تاديغوست»، إذ أدت وشاية كاذبة لأحد رجال الأمن في بني ملال وفي إطار تصفية الحسابات بين أفراد القبيلة، إلى تقليب المواجع الجديدة. بدأت الدورة السيزيفية في التعذيب من جديد، لكن بدت هذه المرة أكثر وحشية وأكثر عنفا من ذي قبل. بالتحديد سنة 1985، قادت الاعتقالات والاختطافات عشرات الشباب إلى التحقيق والتعذيب والتنكيل، ولأن المخزن «لا ينسى» من أساء إليه، فإنه قرر أن يعيد طرح الأسئلة نفسها التي طرحت قبل أربع سنوات ويعيد، أيضا، أساليب التعنيف نفسها لانتزاع الاعترافات.
ولئن كانت أحداث كلميمة لم تؤد إلى حالة موت مباشرة، فإن التعذيب في «تاديغوست» بلغ أشده حينما توفي موحا أوخجا. يتوقف عدي ليهي طويلا عند هذه الواقعة قائلا بنبرة حزن بادية: «ضحايا تفسكا 1981 ينسون تعذيبهم بمجرد ذكر الاسم الموشوم في ذاكرتهم « الشهيد الأستاذ موحا أوخجا ” لأن ما تعرض له ذلك المناضل الكبير والرجل الشهم ومعه أفراد عائلته من طرف عناصر الفرقة الوطنية للدرك الملكي لا يستطيع أحد وصفها، لأن ذلك كان فظيعا جدا. في اللقاءات الوطنية مع الضحايا كنت دائما أستمع لحكايات الضحايا حول التعذيب، ولكن لحد الساعة يبقى ما تعرض له المرحوم موحا أوخجا كارثيا وعملا غير إنسانيا لا يمكن وصفه. وشخصيا اعتقلت وتواجدت  بمقر الدرك الملكي قبل اعتقاله ورأيت بعيني تعذيب المعتقلين، لكن الضحايا نفسهم لما شاهدوا ما قامت به عناصر الدرك الملكي في حق المرحوم موحا أوخجا إثر وصوله الليلة الأولى، اعتبروا تعذيبهم وتعامل عناصر الدرك معهم رحمة رغم قساوته، مقارنة مع الوحشية التي مورست على الشهيد موحا أوخجا  حتى خارت قواه.
لقد تبين فيما بعد أن سكان»تاديغوست» بريئون أيضا من كل التهم التي ألصقت بهم بشأن التورط في معارضة قرار ملكي قاضي بعدم ذبح الأضاحي، ليعود السؤال الجديد/القديم إلى الواجهة: من كتب ذلك ومن نحت تلك الكتابات الحائطية؟. الثابت أن الضحايا، في كل شهاداتهم المؤثرة ينفون أي علاقة لهم بالحادث أو حتى قدرة السكان على التفكير في فعل شيء يشبه ما حدث. فصول المحاضر، التي حصلت عليها «المساء» تخبر بشيء واحد لا يقبل الجدال أو حتى  الشك: رغم كل التعذيب ورغم كل الصعق والضرب والبصق، لا أحد من المعتقلين اعترف أنه شارك أو كتب أي شيء ما عدا بعض الجمل القصيرة التي تشير إلى تحركات غير عادية ومشكوك فيها لأعضاء حزب التقدم والاشتراكية. لا تستبعد بعض المعلومات التي توفرت لدى «المساء» أن يكون الحادث فرديا، بعيدا، كل البعد عما يقوله الضحايا عن تورط الدولة نفسها في فعل ذلك. وإذا كان العكس هو الصحيح، يجدر بنا على كل حال أن نطرح السؤال التالي: إذا كانت الدولة وكل أجهزتها الأمنية تريد الانتقام من منطقة كلميمة بسبب مواقفها التاريخية الرافضة للسلطة المركزية في جوانب الحكم المختلفة، لماذا عادت لتعذب سكان بلدة تاديغوست بعد أربع سنوات من أحداث عيد الأضحى؟ .سؤال يبدو مشروعا، لكن الضحايا وكتب التاريخ وخلاصات المحاضر يمكن أن تسعف في إيجاد جواب ليس مقنعا لكن قريبا إلى المنطق، مؤداه أنه بالفعل كانت ثمة رغبة دفينة تعتري الأجهزة للانتقام من المنطقة، وقد تكون الكلاب المذبوحة فرصة تاريخية لتصفية حسابات سياسية قديمة.

الإنصاف والمصالحة.. الجرح النازف
كان المشهد مختلفا وكانت الأصوات تتعالى في كل مكان، فيما كان الراحل إدريس بنزكري في ركن ركين من القاعة يلتقط الأصوات ويحدق في المواطنين الغاضبين من مسلسل هيئة الإنصاف والمصالحة. صوبت القنوات الدولية عدستها نحو القاعة التي ستحتضن جلسات الاستماع حول التعذيب الذي تلقاه أبناء منطقة الجنوب الشرقي في مختلف الأحداث المؤلمة التي طبعت مغرب القرن العشرين، وأصبحت العيون شاخصة إلى ما ستؤول إليه الجلسات في ظل حماس منقطع النظير عن وجود نوايا حسنة آتية من المركز للتصالح مع الهامش وإنصافه. كانت المفاجأة مدوية، استنادا إلى الشهادات التي استقتها «المساء» حيث رفضت هيئة الإنصاف والمصالحة الاستماع إلى شهادات ضحايا أحداث عيد الأضحى لسنة 1981.
أمام هول الصدمة لم يجد عدي ليهي، منسق لجنة الدفاع عن المعتقلين غير أخذ زمام المبادرة، ثم ما فتئ أن أمسك بالميكرو وشرع يحكي عن مأساة الضحايا وطرق تعذيبهم بأمازيغية، قبل أن تطلب منه الصحافة الأجنبية ترجمة كلامه إلى الفرنسية، لتصاب القاعة بنوع من الذهول وتتحرك الهواتف من المركز الذي صار يشاهد على «المباشر» أن «العرس الديمقراطي» على وشك الانهيار. تحت الضغط، قدم الضحايا شهاداتهم، لأول مرة منذ تجربة الاعتقال سنة 1981، وتعرف الحاضرون على ضحايا من نوع آخر. «من بين التبريرات التي قدمت لنا حتى لا نستفيد من أي تعويض، هي عدم توفرنا على الوعي السياسي في تلك المرحلة، وكانت تساورنا الكثير من الأسئلة من قبيل: هل هيئة الإنصاف والمصالحة حملت مضمونا حقوقيا أم سياسيا؟ هل كل ذلك التعذيب الذي حول حياتنا إلى جحيم حقيقي غير كاف ليقنع أعضاء الهيئة أننا أيضا نستحق التصالح مع التاريخ وبداية مرحلة جديدة» يشرح أحد الضحايا في تصريح لـ«المساء» بحنق.
يعترف الضحايا أن إدريس بنزكري كان الرجل الوحيد الذي دافع بقوة عن ضحايا أحداث عيد الأضحى: «لقد فعل ذلك باقتدار وظل مؤمنا بعدالة قضيتنا». جاءت التعويضات هزيلة ولم تكن كافية لتجاوز كل الجراح الغائرة للضحايا، وما كان منهم إلا أن انخرطوا في المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، وخاضوا من داخله معارك ضارية من أجل استرجاع حقوقهم الضائعة. لم يصدق الضحايا أنه في زمن المصالحة-سنة 2004- سيضطرون من جديد إلى تحمل هراوات الشرطة لتفريق تظاهرتهم في الراشيدية. الآن، يلقي الضحايا  بالمسؤولية على المنتدى لأنه كان «مقصرا جدا» في الدفاع بالرغم من أن نواته القوية تتكون من أبناء الجنوب الشرقي.
غالبية الضحايا غادروا مقاعد الدراسة إما بسبب أزمات نفسية أو بسبب عاهات مستديمة، ولم يتمكنوا من مواصلة مشوار حياتهم بشكل سلس. وإلى حدود اليوم، مازالت حقوقهم لم تسترجع، وأن المعركة مازالت طويلة لضمان العيش بكرامة، ومعظمهم لا يتوفر على مدخول قار. في كل مراسلاتهم يؤكدون أنهم لا يريدون أي تعويض مادي لن يكفي حتى لسداد مصاريف التنقلات والوثائق، بل يريدون مشاريع صغيرة تعوضهم على الأقل على الألم المادي الناتج عن التعذيب المفرط.

حرب نفسية عميقة 
بعد محنة الاعتقال، بدأت محنة أخرى أبطالها مواطنون ودركيون ورجال أمن وبعض أصحاب النفوس الضيقة، فالتصقت بالمعتقلين عبارات من مثل «دباحة الكلاب» «خرجتو على الشرع» و«مساخيط سيدنا»، وهي العبارات التي حفرت عميقا في نفوسهم. أصبح يشار بالبنان إلى سكان كلميمة بكونهم مارقون وخارجون عن القانون ومتمردون على نظام الحسن الثاني، وفي كل سفريتهم، يحسبون ألف حساب للإفصاح عن المدينة التي يتحدرون منها. لقد حدث مرات عديدة أن أوقفتهم حواجز الدرك والشرطة وأهانتهم بعبارات مسيئة لشيء يقولون إنهم لم يفعلون، وإن الذي فعله لم يظهر إلى يومنا هذا. أبناؤهم الذين نشئوا في جو مشحون وحملوا مأساة أبنائهم بكل قسوتها، وتولد لديهم حقد لا شعوري على السلطة. كيف لا، وهم يحدقون في أجساد آبائهم المعلولة وفي كلامهم الدائم عن المحن التي عاشوها في مركز الاعتقال. ابن الجزار الذي اعتقل رغم أنه لا يعرف لا القراءة ولا الكتابة، يقول إن التعويض الذي أقرته هيئة الإنصاف والمصالحة يبدو مضحكا: «في اعتقادك ما الذي يمكن أن تفعله بعشرين ألف درهم، إنه تعذيب جديد للضحايا لكن بصيغة أكثر نعومة من ذي قبل». لا شيء في المرحلة الراهنة يلوح في الأفق حول إمكانية إعادة إنصاف ضحايا المأساة، وبذلك تستمر المعاناة النفسية الدائمة وتستمر كلميمة في لملمة جراحها.

عدي ليهي: ما تعرضت له كولميمة كان انتقامــــــــا ممنهجا من مواقفها تجاه السلطة المركزية
قال إن تعليق الكلاب ليس من فعل السكان والــــــــــــدرك عذب أحد المعتقلين بوحشية حتى الموت
– هناك من يقول إن تعليق الكلاب على بابي قصر إكولميمن  بكولميمة سنة 1981 كان فعلا احتجاجيا مدفوعا بنوازع سياسية، إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الطرح صحيحا؟
في البداية أقدم شكري لجريدة «المساء» التي تنبش في ملفات جماهيرية مهمة وللصديق محمد أحداد لتحمله عناء السفر إلى عين المكان كولميما، من أجل تهييء عمل إعلامي واقعي ومفيد، وقبل الرد عن دوافع « تعليق الكلاب» أصرح أنه ولو افترضنا خطأ أن الفاعل المجهول من السكان (وهو افتراض مستبعد وغير ممكن) فتهميش مدينة برمتها وتعذيب المواطنين الأبرياء ليس حلا ولا يعتبر إلا رد فعل سلبي من طرف السلطات ينم عن نزعة انتقامية لها جذور.
كولميما من المدن الثائرة والرافضة للهيمنة وتسجل دائما مواقف معارضة للحكم المركزي كمجموعة من المدن الحساسة سياسيا  كإمزورن ومريرت والدشيرة وفكيك..إلخ ، وفي مثل هذه المناطق دائما يكون  الرد السلبي منتظرا . فتواتر الأحداث ذات الطابع السياسي بمنطقة كولميمة منذ أيام الحماية من مداهمات لمنازل السكان واعتداءات يومية من لدن الجنود الفرنسيين، لا لشيء إلا لأن هؤلاء السكان يرفضون تواجد الأجنبي فوق أراضيهم. ففي سنة 1933 حيث استسلم السكان بالجنوب الشرقي للجنود الفرنسيين تحت ضغط الطائرات وخرج فيها الثائر زايد أحماد مخداش إلى المقاومة بالجنوب الشرقي على شكل حرب العصابات، كان علال الفاسي بفاس في المدرسة يتابع الدراسة. بعدها  أتت  أحداث عدي أبيهي ثم  وقائع 1973، تاريخ المنطقة يؤكد على أن مواقف سكان هذه المنطقة لا تتماشى وعقلية النخبة المدينية الرسمية. كولميمة في المخيلة السياسية ليست فاس وليست تطوان: إن كانت النخبة الفاسية مثلا تطمح إلى البحث عن كيفية ربط الاتصال والعلاقة مع الجنود الفرنسيين منذ نهاية القرن 19 قبل مجيئهم إلى المغرب والتداول معهم  حول إجراءات توقيع الحماية معها  تمهيدا لسنة 1912، ففي التاريخ نفسه صارع مقاومون من كولميمة لمحاربة الجنود نفسهم قبل وصولهم  إلى البلاد (مواجهة 1908  في الحدود المغربية الجزائرية مثلا). هكذا استمر الاختلاف حول السياسية والسيادة في المغرب بين عقلية تتعامل مع الحدث بتلقائية ووطنية متهورة وعقلية تتعامل مع مصالحها بدهاء كبير. كأنك بين نقيضين: تدبير يوسف بن تاشفين وحيل ابن عباد.
كولميمة من المناطق التي أدت وتؤدي ضريبة الاختلاف والدفاع عن الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان، أما عن السؤال، فأسلوب تعليق الكلاب لم يكن من شيم هؤلاء السكان ولا يتلاءم ونهجهم السياسي.  ضحايا تفسكا «عيد الأضحى» 1981 ومعهم سكان المنطقة لهم كل الأدلة على أن الأيادي الخفية هي التي كانت وراء الفعلة الشنيعة بالكلاب وبالمنطقة (الشمس لا تغطى بالغربال في كولميمة ولا تصبغ الحمير فيها). لا يعقل أن يقوم بهذا الأسلوب الجبان من كان أجداده وراء إرساء من نظام  السقي «مـــســو» ومن قاوم والداه نظام الحماية بالسلاح، ومن استلهم الوحدة من التنوع من الرقصات الجماعية والمختلطة وتمتع بنغمات بــــايـــــبــــي وأبــــايــــدا .
– وصل تعذيب المعتقلين إلى درجة أن أحد المعتقلين توفي بسبب آثار التعذيب، نريد أن تحكي لنا عن هذه الحالة؟
في أحد تجمعات ضحايا الماضي الأليم بالراشيدية طلب من المناضل الثائر  الأستاذ  علي زعبول  (أحد ضحايا أحداث 1973) الحديث وبتفصيل عن أنواع وأشكال التعذيب الذي تعرض لها شخصيا فكان رده كما يلي: «أنا لا  أتاجر في مآسي الآخرين». لا يكفي مجلد ولا اثنان لوصف وتدوين كل أشكال التعذيب التي نالها سكان كولميمة منذ نهاية الخمسينيات من طرف مليشيات حزب الاستقلال مرورا بأحداث1973 من طرف السلطات المغربية وتفسكا 1981 و 1994 (اعتقالات تيليلي) من طرف الأجهزة السرية.
أما عن الجزء الثاني للسؤال فضحايا تفسكا 1981 ينسون تعذيبهم بمجرد ذكر الاسم الموشوم في ذاكرتهم «الشهيد الأستاذ موحا أوخجا» لأن ما تعرض له ذلك المناضل الكبير والرجل الشهم ومعه  أفراد عائلته من طرف عناصر الفرقة الوطنية للدرك الملكي لا يستطيع أحد وصفه، لأن ذلك كان فظيعا جدا. في اللقاءات الوطنية مع الضحايا كنت دائما أستمع لحكايات الضحايا حول التعذيب، ولكن لحد الساعة يبقى ما تعرض له المرحوم موحا أوخجا كارثيا وعملا غير إنساني لا يمكن وصفه.  وشخصيا اعتقلت وتواجدت  بمقر الدرك الملكي قبل اعتقاله ورأيت بعيني تعذيب المعتقلين، لكن الضحايا نفسهم لما شاهدوا ما قامت به عناصر الدرك الملكي في حق المرحوم موحا أوخجا إثر وصوله الليلة الأولى اعتبروا تعذيبهم رحمة رغم قساوته مقارنة مع الوحشية التي مورست على الشهيد موحا أوخجا  حتى خارت قواه.
– هل يمكن القول إن التعويض الذي أخذه الضحايا كاف لمسح ذكريات التعذيب القاسي التي تعرض لها سكان كولميمة؟
منذ إطلاق سراح ضحايا تفسكا 1981 وهم على اتصال دائم، بل أكثر من ذلك شكلوا  تنسيقية تجمعهم ويصدرون بلاغات وبيانات تعبر عن مواقفهم  قبل أن تفكر السلطات المخزنية في تخريجة «الطي النهائي لصفحة الماضي» و «التعويض». ومما عبروا عنه هؤلاء الضحايا  قبولهم المبدئي للمشروع الحقوقي الوطني في هذا الموضوع، واستعدوا  لنسيان ما جرى ومسح ذكريات تعذيبهم، إلا أن المبالغ الخجولة والتي يستحيي الضحايا التصريح بها، المقررة من لدن هيئة الإنصاف والمصالحة تركت في أنفسهم ونفوس أفراد عائلاتهم أثرا سلبيا كبيرا. وفي تقييمهم لموقف الدولة فقد تبين لهم أن تعذيبهم سيستمر وتهميش كولميمة سيشتد، وفعلا ففي 2014  مدينة كولميمة تئن  يوميا وجروح سكانها لم تندمل بعد. التعذيب يستمر بطرق غير مباشرة والتهميش هو السائد.
– ما هي الخطوات المستقبلية التي تعتزمون القيام بها من أجل الدفاع عن الضحايا؟
عادة ما تجد المضطهدين في العالم والمعتقلين السابقين منهم يتعاطفون ويتضامنون فيما بينهم، ضحايا تفسكا 1981 وهذه الخصلة الإنسانية، من الدواعي الذاتية لتأسيس تنسيقية ضحايا عيد الأضحى المحتضنة من لدن لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان في البداية، وبعد ذلك التحق هؤلاء بالمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف. لقد تحملت شخصيا باسم هؤلاء مسؤولية كاتب عام المنتدى الجهوي لإمتغرن ( الراشيدية )ووارزازات سنة 1999 وبعدها رئيس فرع كولميمة  لمنتدى الحقيقة والإنصاف وعضو مجلسه الوطني .
إلا أن ما تحقق من مكتسبات لهذه الفئة فقد كان في ظل تنسيقيتهم، أما في إطار منتدى الحقيقة والإنصاف فالحصيلة لا شيء. اليوم ضحايا الماضي الأليم في منطقة الجنوب الشرقي عموما، ومن ضمنهم ضحايا عيد الأضحى  يجدون أنفسهم في وقفة تأمل لإيجاد الرد على السؤال مـــــا الــــعـــمــــل؟ في لقاء تشاور لأعضاء المكتب المسير الحالي للمنتدى المغربي فرع كولميمة طرحت عدة اقتراحات ومنها:
– الانسحاب من المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف وتأسيس  إطار جهوي للجنوب الشرقي له الأهداف نفسها للدفاع عن مصالح ضحايا الماضي الأليم بمختلف فآته – إحياء تنسيقيات الضحايا التي نشطت بكولميمة وتنغير والاستمرار بموازاة لذلك بالمنتدى رغم علله وعيوبه …إلخ . والأهم أن ضحايا تفسكا 1981 كيفما كان الحال لن يصمتوا نهائيا حتى يردون اعتبارهم، خاصة أن مجموعة منهم قدمت طلب التعويض خارج الأجل المحدد من طرف هيئة الإنصاف ومازالت تلح على البت فيه، ومنهم على الخصوص الضحايا المتواجدون خارج المنطقة آنذاك، ومنهم مثلا (محمد خربو في طنجة ويوسف عمينو في مراكش وأحمد عبزى  في القنيطرة ) …إلخ . وعن آفاق العمل، فعمليا تشكلت لجنة تحضيرية لصياغة مشاريع أوراق تتضمن الاقتراحات المذكورة والأرضية التأسيسية ومشروع القانون الأساسي للمنتدى الجهوي للجنوب الشرقي من أجل الحقيقة والإنصاف، وهو إطار مستقل عن التنظيمات الحقوقية المتواجدة بالساحة الوطنية وعن النقابات والأحزاب آملين أن تحدو المناطق الأخرى والمهمشة من طرف المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف كمنطقة سوس والريف والأطلس المتوسط حدونا، دفاعا عن الضحايا خارج الحسابات الحزبية والسياسوية الضيقة.
*  منسق لجنة الدفاع عن معتقلي أحداث «تفسكا عيد الأضحى سنة 1981»

شهادات مؤلمة لضحايا أحداث عيد الأضحى 1981 بكلميمة

عيسى مدوش: صعقوني بالكهرباء وبتروا يدي وبقيت رهن الاعتقال 17 يوما
في تلك الفترة كان عيسى عدوش، يحاول جاهدا أن ينجح في مساره الدراسي، إذ كان الحلم بعمل يحفظ كرامة عائلته بمثابة الخلاص. عيسى والسياسة، خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بإرادة إدريس البصري، حيث وجد نفسه بغثة في قبضة رجال الدرك الملكي ذات شتاء من سنة 1981 والتهمة «عصيان أوامر الملك وتعليق الكلاب على باب القصور بكلميمة». يوغل عيسى في الذكريات بمسحة حزن بادية تفضحها جمله المتقطعة «كنت فالكوليج ما بيا ما عليا، ولا أعرف عن السياسة أي شيء، كل ما كنت أعرفه وقتئذ أنني يجب أن أدرس لانتشال عائلتي من الفقر المدقع، لكن الدرك الملكي كان لهم رأي آخر في الموضوع وتحولت حياتي فيما بعد إلى مأساة حقيقية».
في مركز الدرك الملكي بكلميمة، الذي كان يشهد حالة استنفار حقيقية، حقق رجال الدرك مع مدوش، الذي لم يكن يتجاوز سنه يومها 16 سنة: عذبوه بالصعقات الكهربائية وبتروا أحد أصابع يده وبقي رهن الاعتقال 17 يوما في ظروف إنسانية قاسية. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل طيلة أيام الاعتقال، حرم من الأكل ومن الشرب إلا في حالات نادرة، وكان رجال الدرك «يلحفونه» في «الشيفون» و«يدورون» آلة كهربائية يدوية «لأحس بآلأم فظيعة مازالت تحاصرني إلى يومنا هذا». الشيء الأقسى الذي فعله هؤلاء الظالمون، يستفيض عيسى، أنهم حرموني من مواصلة دراستي بسبب الضغط النفسي الرهيب الذي مارسوه علينا في كل مكان».

بنحساين هدة: عذبوا زوجي بوحشية ومات بعد شهرين من خروجه من السجن 
أصرت بنحساين هدة، زوجة أحد الضحايا على اللقاء بصحافي الجريدة في إحدى المقاهي المتواجدة بوسط كلميمة، وطوال الحديث كنت أصيخ السمع لكل كلماتها التي تنطقها بأمازيغية فصيحة: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، كان ذلك ظلما فادحا لن نغفره لهم مهما حيينا». تحكي هدة أن زوجها كان جزارا في القصر الذي علقت على بابه الكلاب وكتبت عليه تلك العبارات التي غيرت تاريخ كلميمة. الذنب الوحيد الذي اقترفه الجزار هو أنه قام بمسح تلك العبارات بطريقة تلقائية، لأنه كان أميا ولا يعرف أي شيء عن مضامين ما كتب على الحائط. «اوسينت ام كان لبهيمة سجندارم داقيما غورسن 10 وسان وتانت سوسيد هذا بلا اتسول هدى النس دافسنس دسعناتن اينا اكا غفس وتات سوسيد د كانت اماس يات لكاشا امغن(«اقتادوه بـ«وحشية» إلى مركز الدرك الملكي، وبقي هناك عشرة أيام تعرض خلالها للصعق الكهربائي).
لا تحتاج هدة إلى الحديث، عيناها وحركة يديها، وهي تسرد فصول اعتقال زوجها، كانت تخبر بكل شيء «صعقوه بالكهرباء وضربوه ووضعوه في «كاشة مبللة، وخرج من السجن شاحبا، وكان الموت يلتمع في عينيه، وكذلك كان، حيث بدأت تظهر عليه أعراض المرض الشديد من قبيل انسلاخ جلده عن جسده وتساقط الشعر، وبعد شهرين فقط من خروجه من السجن صعد إلى جوار ربه، وكان يردد في لحظاته الأخيرة «لن أغفر لهم في الدنيا والآخرة».

أحمد باري: اعتقلوني بعد شهرين من الزواج وخرجت من المركز مريضا بالسكري والكلي
لم يكد يمر شهران على زواجه، حتى وجد أحمد باري، العامل بمركز الأبحاث المعدنية، يوم ذاك، نفسه يواجه أسئلة الدرك»من كتب كل ذلك الكلام ومن هي الجهة التي وراء تعليق الكلاب». أصيب باري بالذهول، وهو يحدق في رجال الدرك الذين كانوا يستنطقونه بفظاظة وبلغة محشوة بالكلام البذيء. يشرع باري في نسج فصول حكايته المرعبة مع الاعتقال:» يوم عيد الأضحى لسنة 1981، كنت خارجا من قصر كلميمة قاصدا»الفيلاج»، قبل أن أفاجأ بعناصر الدرك الملكي تقودني إلى «لابريكاد»، ركلوني وصفعوني بقوة على وجهي وواجهوني بالعبارة التالية: هدرو يا مساخيط سيدنا شكون كتب هادشي وشكون علق لكلاب وشكون قاليكوم ديرو هادشي».
أمضى باري عشرة أيام في الاعتقال، وكما باقي كل أصدقائه، الذين اعتقلوا أيام أحداث»ليشيو» مورست عليه مختلف أصناف التعذيب الجسدي والنفسي للاعتراف بأشياء لا يعرفها ولم يسمع عنها يوما. طبعا تذوق مرارة الصعق الكهربائي والسباب والشتم ونتج عن ذلك حرمانه من التقاعد بعد 12 عاما من العمل المتواصل، وتسرب البرد إلى كليه وسكنه مرض السكري، بيد أن أسوأ أشكال التعذيب، يشرح باري، هي التي حدثت بعد الإفراج عنا، إذ كنا ننعت في كل مكان بـ»دباحة لكلاب وتحولت حياتنا إلى جحيم حقيقي». مرت الأعوام متثاقلة وظل دبيب الزنازين يتربص بأحمد، وهو اليوم يعرف حقيقة واحدة لا يمكن أن يجادل فيها أحد، وهي أن» عدم التحاق ابنه بسلك ضباط الشرطة بعدما اجتاز كل الامتحانات وخضع لجميع الإجراءات يكمن بالأساس في حادثة»الكلاب».

زايد لغزيل: لفوني في «كاشة» مبللة وصعقوني بالكهرباء وعنفوا أمهاتنا وأخواتنا
كان أكثر الضحايا المتحمسين للحديث، وكأن الألم الذي يحمله في أحشائه لا يحتمل مزيدا من الانتظار القاتل. كان يريد أن يبوح في السابعة صباحا، لولا أن الطريق هدت أوصالي. في الرابعة مساء، يرتشف كأس قهوة «سجل عندك ومتنساش شي حرف نقولو ليك»آنذاك كنت قد بلغت 17 سنة، ولأن مقدم «فم القصر» يعرف أني أخرج ليلا، أخبر الدرك الملكي بإمكانية تورطي في الكتابات الحائطية وذبح الكلاب، يومها كنت أبلغ 17 عاما، باعني المقدم، أخبر الدرك، لأنهم كانوا يعرفون أني أخرج في الليل. في الواحدة ظهرا من يوم العيد، اقتادتني سرية من الدرك الملكي إلى»لابريكاد» للتحقيق معي حول هوية»معلق» الكلاب وناحت العبارات الحائطية، لكن الأسئلة الرئيسة التي تركز عليها التحقيق، كان المقدم نفسه الذي وشى بي يقف وراءها، إذ أخبرهم أنني أمتلك كلبة و8 جراء أخرى. كانوا يريدون أن ينتزعوا اعترافا بالقوة أن تلك الكلاب في حوزتي، وأرغموني على أن أضع يدي على السور، ورفع رجلي، وسط سباب مليء بالعبارات القدحية.
في الزنزانة، كما يحكي لغزيل لـ»المساء»»صعقوني بالكهرباء، وأجلسوني على الكرسي ورفعوا رجلي عنوة وشرعوا في الضرب بقوة مفرطة، إلى درجة أن صراخي كان يصل إلى عائلاتنا التي كانت تتواجد قرب المركز طلبا للإفراج عنا. استمر التعذيب بالطرق نفسها-الكاشة والصعق- لمدة اثني عشر يوم بدون رحمة ولا شفقة. لم تشفع كل توسلاتنا وكل تصريحاتنا أن لا علاقة لنا بما حدث، وليس لدينا أي ارتباط بالأحزاب السياسية، ولا بخطط قلب النظام. أمعنوا في تعذيبنا بطريقة لا تطاق، كانت أجسادنا النحيلة ترتجف. في زمن هيئة الإنصاف والمصالحة طلبت «كريمة»، فالدراسة التي كنت أعول عليها لأواجه صروف الدهر، غادرت مقاعدها مكرها بسبب نوبات نفسية عميقة انتابتني مباشرة بعد فترات التعذيب. الآن يقول لغزيل فيما، يشبه الحسرة، إن السلطات لم تستجب لطلباته المتكررة لتعويضه عن منزله الذي هدم بسبب عملية الترميم».

علي شرويطي المرغادي: هددوني بالاغتصاب بالقرعة وعذبوني بوحشية

  حكاية علي، تبدو مختلفة تماما عن كل القصص السابقة. صحيح أنه في اللحظات القاسية وفي المآسي لا تنفع المقارنات لأن الألم واحد، لكن مسار الرجل يوحي بشيء مختلف عن كل الاعترافات التي انتزعها الدرك الملكي بإقليم كلميمة من المعتقلين. المرغادي، ابن كلميمة الحالم، آنذاك، بالثورة، اعتنق الفكر الشيوعي بانتسابه إلى الحزب الشيوعي المغربي، وشكل مصدر قلق حقيقي لحزب الحركة الشعبية الذي اجتاح الأودية والجبال في «المغرب العميق». في الوهلة الأولى قاد مقاطعة استفتاء يتعلق بتمديد الولاية البرلمانية ثم في وقت لاحق، قاد حملة للتصويت بـ«لا» على استفتاء تخفيض سن ولي العهد. بين هذين الحدثين كانت السلطات ترقبه وترصد حركاته وسكناته، وزار مرة دهاليز مولاي الشريف، وتعرف على «بشاعة» السلطة كما يقول هو ثم دار المقري.
في أحداث «1981»، كانت التهم جاهزة لإلصاقها بحزب التقدم والاشتراكية الذي لا تربطه علاقة ود كبيرة مع القصر آنذاك. طبعا، فهم الشرويطي، أنه لن يفلت هذه المرة من كماشة المخزن والتف حبل الاتهام حول عنقه، إلى جانب مناضلين آخرين من حزب «على يعتة». يقول المرغادي إن عناصر الدرك الملكي أصيبت بالسعار بعدما تلقت أوامر مباشرة من وزير الداخلية الراحل إدريس البصري: تعتقل أي شخص وتشتبه في كل شخص ولا تعبأ للعوائل، وتنتزع الاعترافات من الجميع. بالواضح أصيب المخزن بالعمى، الشيء الذي أدى في نهاية المطاف إلى تعذيب مدينة بكاملها. المرغادي، أصيب بالعمى، وبالكاد يسمع أسئلة صحافي «المساء» يستل من ملفاته القديمة أوراق تخبر بحجم المأساة. لم يكن يوما، كما يقول أصدقاؤه، يتزحزح عن مواقفه، ولم تكن تروقه مقصات الرقابة مهما كانت. متحللا من كل فنون التعذيب التي تحملها جسده في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
«لا أعرف أي سعار هذا الذي يجعل عناصر الدرك الملكي تعتقل شبابا في عمر الزهور، وفي يوم عيد الأضحى، وكيف يسب هؤلاء الأمهات والأخوات في واضحة النهار». خلال 24 يوم من الاعتقال، حظي المرغادي بحصة الأسد من التعذيب، بسبب انتمائه للحزب الشيوعي. هددوه بالاغتصاب، والاغتصاب بالقرعة، ثم صعقوه بالكهرباء، ولفوه في شيفون كبير وتماس بالكهرباء وتحول جسده إلى قطع غيار، وصارت قصته تشبه إلى حد بعيد المرثية الدرويشية الشهيرة في استشهاد غسان كنفاني «محاولة رثاء بركان».
رغم كل شيء، يقاوم المرغادي، بطش الذاكرة بتدوين كل ما حل بمنطقتهم ذات «كلاب علقت»، ولا غرابة أن نلفي أن سكان المنطقة ينعتونه بذاكرة كلميمة التي لا تصدأ.. «اسمع يا ولدي يومها لم تولد بعد، كان القمع خايب بزاف، وتعذبنا بزاف».

محمد أحداد, المساء

 

مشاركة