الرئيسية مجتمع المسلسلات المدبلجة.. أسلحة الدمار الشامل التي تستهدف الهوية المغربية

المسلسلات المدبلجة.. أسلحة الدمار الشامل التي تستهدف الهوية المغربية

كتبه كتب في 28 سبتمبر 2014 - 20:10
تعددت أسماء الدبلجة بين التيلينوفيلا وأوبرا الصابون..وتنوعت الآراء حولها بين منتمين إلى مختلف الحقول السياسية والدينية والتربوية والسوسيولوجية واللغوية والسيميائية وبين ممثلين ومخرجين ونقاد. فالبعض يصفق لها على اعتبار الجماهيرية التي تحصدها في تقارير «ماروك ميتري»، والبعض يرى فيها تطبيعا وتمريرا لمفاهيم غريبة عن الجنس والخيانة الزوجية والتنافس من أجل المال وتحقيق المتع.. واصفا إياها بـ«الخردة الدرامية»، التي يقدمها دعاة التلهيج للأفواه الجائعة، وإلى جانبه سؤال مشاكس حول مرامي الإصرار على «الاهتمام» بها، في الوقت الذي تظل أعمال كبرى مؤرخة لأعلام التاريخ والحضارة..في مدك «اللاهتمام»، وزمن جميل ولى مع رواد أمثال المرحوم إبراهيم السايح.

إن غزو المسلسلات الصابونية على مدار السنة لشاشاتنا، حسب فاعلين في المجال الفني، أثر على الإنتاج الوطني، الذي انحصر في شهر رمضان إلى درجة سمحت بتوصيفه من لدن أولاء بإنتاج «الحريرة»

ورغم أن هناك من يعتبر الدبلجة خطوات متقدمة للتصالح مع المتلقي وتحقيق إعلام القرب، تظل آراء  الكثير ممن استفسرتهم «المساء» بخصوص المنتوج الإعلامي المدبلج، تجمع على كونه لا يعدو ابتذالا تحكمه رهانات سياسية لا وطنية، وأبعد ما يكون عن تلبية رغبات المتفرج، الذي يتم تصنيعه وفق نسق خاص، حيث يصبح لا يفكر ولا ينتقد.. ومستسلما يهضم كل ما يتلقاه له من إنتاجات مدبلجة بالعامية، هدفها الأول والأخير «قتل المشاهد الكريم».

وزير الاتصال  مصطفى الخلفي صرح بأن الأمر يتعلق بمنظومة لا أخلاقية تعكسها بعض الأعمال التلفزيونية، وهو ما يخالف القيم الحضارية للمملكة، وطالب الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالتحرك إزاء ما اعتبره اختلالات.

الظاهر في وقتنا الراهن أن دبلجة المسلسلات الأجنبية إلى الدارجة صارت شأنا عاما، وبالتالي فإن الجميع يتحمل المسؤولية في نقاشها وإيجاد حل لها.

أمام عدم تلبية احتياجات المشاهد من قبل أصحاب القرار الإعلامي ومن يدور في فلكهم، وتقديم إنتاجات  لاتراعي الذوق العام هاجسها الوحيد الدخل المادي، تبقى هناك أسئلة كثيرة تنتظر أجوبة، في ظل واقع إعلامي لا ينفك عن التحول، واقع أضحت فيه الصورة الخصم والحكم.

الدبلجة.. سنوات الرصاص الإعلامية لـ«التلينوفيلا» المغربية

سماها الأمريكيون في الثلاثينيات بـ«فقاعات الصابون» لسطحيتها وتفاهتها وفراغها من أي مضمون

[[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_large”,”fid”:”13335″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”height”:”215″,”typeof”:”foaf:Image”,”width”:”480″}}]]

كل ما تسوقه الشهادات في حق الدبلجة يجعل أصابع الاتهام توجه إليها وإلى من وضعها في «خارطة الصناعة التلفزيونية». المتهمون شتى والتهمة واحدة هي: الدنو من مملكة المشاهد وإضرام لهيب الفوضى في عقر داره.

اتخذت الدارجة في الآونة الأخيرة منحى مغايرا، وشغلت حيزا مهما من نقاشات المغاربة، فأصبح البعض يحارب من أجل جعلها لغة  تدرس في المدارس، والبعض الآخر يجعل منها وسيلة لسد ثغرات ضعف الإنتاج الوطني، لتصبح بالتالي جل برامج الشاشة الفضية عبارة عن مسلسلات مدبلجة بالدارجة، واحدة تلوى الأخرى، اكتسحت القنوات المغربية، مما جعلها تتصدر قائمة الإنتاجات الدرامية الأكثر مشاهدة، حتى أصبح المجتمع المغربي رهينا بها، دون مراعاة الواقع المعيش والمختلف تماما. وهو ما يجعل المرء يتساءل عن سبب انتشار المسلسلات المدبلجة بالدارجة في قنواتنا الصغيرة، وخاصة القناة الثانية، التي يصل فيها معدل البث إلى ما يقارب ست ساعات في اليوم، والداعي وراء اختيار «العامية» كلغة تترجم بها جل المسلسلات الأجنبية..

 من المؤكد أن تكون الإجابة في غالب الأوقات عبارة عن «لغة أرقام»، إذ يستنجد دوما بتقارير ”ماروك ميتري”، لإثبات الاستجابة لرغبات المشاهد، على اعتبار أن نسب المشاهدة تكون جد مرتفعة في هذا النوع من الدراما، بينما تتهاوى هذه النسب في البرامج الحوارية.

ونتساءل بالموازاة عن سبب إقدام التلفزة المغربية على الخطوة الجريئة، وتقديم لغة أقرب إلى الشعب (الدارجة)، والحصيلة: المساعدة على نقل قيم أجنبية بسهولة أكبر. إذ رغم تعود المشاهد المغربي على الدبلجة باللغة العربية الفصحى أو اللهجة السورية، فإن الأمر يختلف عندما تترجم الأعمال إلى اللغة المحلية، إذ أن اللهجة المألوفة لدى المتلقي ستمكنه من الارتباط أكثر بما يشاهده. فالصغير الذي لم يتجاوز السادسة من عمره يطلق على نفسه اسم البطل ويتماهى مع اللقب، والمسن الذي تخطى عقده السادس يتابع جل الحلقات بتركيز وشَغفٍ خوفا من إضاعة مشهد ما، والمرأة العجوز وضعت السبحة لتحمل آلة التحكم عن بعد، والمراهق انزلق تحت نزق الرسائل المنقولة إليه سلبا وإيجابا..

لقد دافع المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة عن اللغة باعتبارها من أركان التنمية، ورأى في اليابان نموذجا مثاليا، حيث اعتمد البلد على اللغة اليابانية، في مسيرته التنموية وليس على لغة الغير. كما وصل المنجرة إلى ما مفاده أن الاستعمال المكثف للدارجة المغربية ليس بريئا، بل هو مخطط يسعى إلى القضاء على اللغة العربية.

يقول المهدي المنجرة في كتابه «قيمة القيم»: «… من الواضح أنه ليس ثمة مجال يبرز فيه بشكل جلي الاستعمار الجديد، وطرقه الأكثر تقدما ودهاء في بسط نفوذه من جديد أكثر من مجال الاتصال. ولقد حدث هذا لأن جزءا كبيرا من هذا الاستعمار الجديد توجه إلى العقول مرسخا فيها مركب النقص..».

حرب الدبلجة على المجتمع لا تزال رحاها تدور على شاشاتنا وعلى مرأى ومسمع وحضور منا.. والأكثر من ذلك الزحف القوي لها على ثقافتنا وعاداتتا.. والحصيلة أوقات بث غير بريئة وموائد عائلية  ترتب على حساب ما تجود به يد «الجسد التلفزيوني الصناعي العامي المغربي».

جلسنا إلى رجال التربية والتعليم المختلفة، وكلنا فضول لمعرفة ما إن كانت الدبلجة بالعامية فعلا مؤامرة على المجتمع، وسعي إلى نسف نواة العائلة وتشتيت لها، فكانت الإجابة صور شتى: تلميذة عشرينية أمام التلفزيون مصابة بانفلونزا المسلسلات الصابونية.  وطالب ينطلي عليه ما ينطلي على «تاء التأنيث» لولا جرعة زائدة من هوس كرة القدم.. صور قدمها لنا رجال التربية والتعليم، من مؤسسات مختلفة، بأمانة عنوانها «حذار..أجيالنا في خطر».

نوستالجيا الأوبرا الصابونية أو«النوفيلا»

ونحن نقلب صفحات موسوعة الدبلجة العملاقة، رجعنا خطوات إلى الوراء لنحاول إعطاء صورة عن هذا الفن، الذي اتهمه الكثير في مجتمعنا العربي والمغربي، اليوم، بالتسلل إلى عقر القيم  والهوية عن سبق إصرار وترصد، فيما القليلون من برأه. فلم سميت المسلسلات المدبلجة بالصابونية؟ وكيف حادت عن مراميها الفنية والجمالية الراقية لتبلغ مدارك الإسفاف؟ وكيف تتراكم وتتشعب هذه الإنتاجات الدرامية في عالمنا العربي والإسلامي، في ظل العولمة والانفتاح الإعلامي وبروز قوة السوق؟ وماذا عن حالها في بلدنا المغرب في ظل جدل فكري وثقافي وفني..وعلى ضوء تحول مجتمعي جعل الجمهور يصفق لها مرة ويصفعها مرات؟

بدأت في الثلاثينيات من القرن العشرين، وحققت شعبية في الولايات المتحدة الأمريكية بعيد الحرب العالمية الثانية، وفي أوائل الخمسينيات سميت «الأوبرا الصابونية» بهذا الاسم لأن شركات إنتاج الصابون ظلت سنين الراعي لها، تقدمها للجمهور مقابل تخصيص فترات من البرنامج للإعلان عن منتجاتها.

واستمر هذا اللقب لافتقار هذه الدراما لقوة الطرح، وشبهها النقاد بـ«فقاعات الصابون» لسطحيتها وتفاهتها وفراغها من أي مضمون.

وتعتبر البرازيل أول من استثمر في هذا النوع من الميلودراما، والتي حملت فيما بعد تسمية «النوفيلا» أو «التيلينوفيلا»، أي القصص الطويلة والحزينة، والتي تتناول علاقات رومانسية واجتماعية متداخلة، موضوعها المال والجنس والخيانة الزوجية.. وهي في الأصل تدوم من 7 إلى 8 أشهر، أي أنها تقارب العام، مما يمكن الإنسان من عد عمره على إيقاعها. وقد كانت في مرحلة الدكتاتورية، في أواسط الستينيات ملاذا لتصرف مواقف المثقفين للجماهير العريضة..

تجارة أحفاد عثمان

 بن ارطغرل الرابحة

نجحت الدراما التركية بذكاء في تسويق منتوجها عبر الاعتماد على اللوحات الطبيعية الخلابة، وعناصر الحبكة الدرامية والعائلة التركية بعلاقاتها، ووسامة الأبطال وجمال المرأة التركية وملابسها..وصارت مفضلة على المنتوج المكسيكي بمشاهده الساخنة ولقطاته الفاضحة..

وقد قامت تركيا بتسويق دراماها كمنتج محلي قومي، وهو ما جعل السياحة التركية تنتعش في العالم العربي بناء على مخطط تسويقي ممتاز.

لا نختلف بأنه في ديباجة الكثير من الفضائيات العربية يعرض كم هائل من المسلسلات المدبلجة، وتعد قناة «إم بي سي» أول قناة اقتحمت الميلودراما التركية، لتجعل منها المنافس الأول للمسلسلات الصابونية..

ووفق فنيين ومختصين في المجال، فالدبلجة أصعب من السترجة- (ترجمة النص المنطوق كتابيا)- لأن الدبلجة تحتاج إلى أكثر من صوت وإلى مؤثرات صوتية.. وهي ناجحة لأنه يتابعها حتى ضعاف البصر والأميين.

وقد انتشرت»الدبلجة» ونجحت في العالم العربي عامة، والمغربي خاصة، لأنها قامت بشحذ الاستيهامات العاطفية والاجتماعية..ولأن الفقير وجد فيها تعويضا عن ضنك الحياة والفراغ العاطفي..ومن المحللين من يقول إن تفشي الدبلجة بين ظهرانينا إنما هو نتيجة كسل الشعوب العربية التي تريد الاستمتاع بالأعمال الفنية الأجنبية بلغتها دون بذل جهد في السترجة.

لمن تشير أصابع الاتهام

يشاع بأن الإعلام في «سنوات الرصاص» ساعد على وقوع عدة جرائم. أما اليوم فالأمر يختلف تماما لأنه سكت عن أعطاب الانتقال الديمقراطي، لسبب بسيط هو أنه إعلام عمومي متخلف.

وإلى الآن لا يزال إعلامنا –وفق مصادرنا- رهين محبس «سنوات الرصاص الإعلامي» بسبب أمزجة تخضع لتقلباتها شركات إنتاج فيصل العرايشي، الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للتلفزة المغربية، الذي له اليد الطولى في كل المجالات.

15 سنة والرجل على رأس عرش الإعلام، واليوم ترتفع الأصوات مطالبة بمحاسبته عما قدم في ملف الإعلام المغربي: بماذا أتى؟.. وما الذي أضاع..؟ وتلح على مثوله أمام هيئة إنصاف إعلامية..

اتهامات تتوجه حتى إلى الهيئة العليا للسمعي البصري، وإلى وزارة الاتصال، وإلى قنواتنا المغربية، لاسيما القناة الثانية.. واللائحة طويلة.

«دوزيم»..

 قناة المسلسلات المدبلجة

المسلسلات المدبلجة، سواء منها المكسيكية أو التركية، باب مهم في الإنتاج الخارجي ضمن دفتر التحملات. وتشكل نسبة مهمة في قناتينا، ولاسيما القناة الثانية. إذ تعتبر هذه القناة المسلسلات المدبلجة من الرافعات الأساسية التي تشكل خطها التحريري، رغم أنها تفتقر لأي إستراتيجية في الإنتاج الداخلي والخارجي.

فمسألة تحديد أولويات القناة الثانية تتم بشكل اعتباطي وغير مدروس. إذ الملاحظ، وفق محللين ومهتمين، أن شبكة البرامج في القناة داخليا وخارجيا يعوزها خيط ناظم، وتفتقر إلى رؤية تلفزيونية واضحة المعالم.

«دوزيم» تعيد برمجة المسلسلات الصابونية عند انتهاء بثها على الفضائيات العربية بعد التقادم، ويكون أغلب المشاهدين قد تابعوها.

 وحسب مهتمين، فالمسلسلات الأمريكية نضب ماؤها لأن العقلية اللاتينوأمريكية أقرب إلى نظيراتها العربية، ولهذا السبب ربما سارع المغاربة ومن قبلهم السوريون إلى دبلجة مسلسلات جيرانهم الأتراك بعناوينها العملاقة والمحورة، فمن «سيدة المزرعة» إلى «ماتنسانيش»، وصولا إلى «سامحيني»، الذي يعتبر أطول إنتاج تركي مدبلج إلى الدارجة، حيث تصل عدد حلقاته إلى ما يقارب 500 حلقة.

المسلسلات المدبلجة من الاستيراد إلى التصدير

باتت مسلسلات «الأوبرا صوب» باللهجة الدارجة تزاحم تسمية قناة عين السبع، حيث تشكل نسبة 70 في المائة من الإنتاج الخارجي مقابل 30 في المائة من الإنتاج الوطني.

وهي تحظى بمتابعة واسعة حسب تقارير «ماروك ميتري»، حيث يندمج المشاهد ويستسلم لدلالها..الرجل كالمٍرأة والصغير قبل الكبير..في المدن والقرى والمناطق النائية..مسلسلات يتدخل في أوقات بثها «المستشهر» دون مراعاة فترات الذروة أو اجتماع العائلة أو الأطفال أو خصوصية شهر رمضان..

فالمادة 13 من دفتر تحمل الشركة تؤكد على أن الإنتاج السمعي البصري الوطني يمثل كحد أدنى 9 ساعات ونصف في اليوم، لأول بث كمعدل سنوي بالنسبة إلى جميع القنوات والمحطات التلفزية التابعة للشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية.

وبالرغم من مصادقة مجالسها على دفاتر التحملات، التي تلزم بالحفاظ على ثوابت الأمة وقيمها وهويتها الدينية واللغوية، تعمد القنوات إلى دبلجة المسلسلات إلى العامية لتبسيط الفهم للمشاهد.

في استفسارنا للقناة الثانية عن تكلفة المسلسلات والسبب في ضعف الإنتاج الوطني..لم نتوصل إلى جواب كاف وشاف.

وحسب مصادرنا، ترتفع قيمة اقتناء الإنتاجات الدرامية، خاصة التركية منها، حسب شهرة العمل والممثل، إذ تتراوح تكلفة الاقتناء بين 16 ألفا و40 ألف درهم للحلقة الواحدة، وتكلفة مسلسل واحد من 200 حلقة مثلا، تتراوح ما بين 3 ملايين و8 ملايين درهم.

ورغم الانتقادات والهجوم الذي عرفته المسلسلات المدبلجة باللهجة المغربية من قبل نقاد وفنانين وغيرهم، فقد اعتلت صدارة ترتيب البرامج الأكثر مشاهدة في القناة الثانية من 4 إلى 10 يونيو 2014، وفق ما أعلنت عنه نتائج مؤسسة «ماروك ميتري»، المختصة في قياس نسب المشاهدة بالمغرب، حيث احتل المسلسل المدبلج «سامحيني» المرتبة الأولى بنسبة 68.8 في المائة من حصة المشاهدة، أي ما يعادل 5 ملايين و507 آلاف مشاهد.

الدبلجة المغربية

و«ديكتاتورية المعلن»

المسلسلات المدبلجة لا تعكس رؤية واحدة، وإنما جاءت تحت «ديكتاتورية المعلن» الذي يتحكم في العملية على حساب المشاهد.

وحسب «تقرير لجنة التعليم والثقافة والاتصال حول المهمة الاستطلاعية المؤقتة لقنوات القطب العمومي»، فالإشهار يعتبر موردا ماليا رئيسيا في ميزانية القناة، حيث يمثل حوالي 95 في المائة من مواردها، إلا أن بثه يخضع لمعايير ومواقيت مضبوطة، تحددها «دفاتر التحملات»، التي خصص آخرها للأشهر 14 دقيقة من كل ساعة بث طيلة أشهر السنة، باستثناء شهر رمضان الذي تنتقل فيه مدة الإشهار إلى 18 دقيقة في الساعة. وتتم متابعة تنفيذ ما ينص عليه «دفتر التحملات» في هذا الشأن من خلال تقارير «الهاكا»، التي سجلت ملاحظات بخصوص تجاوز المدة المشار إليها، لكن التجاوز ظل في حدود ثوان معدودة. إلا أن القناة، حسب إجابات مديرها العام، تعاني من استمرار تحكم «المستشهرين «في عملية الإشهار، وهو ما يجعل مداخيله غير مهيكلة (رغم الارتفاع الذي يسجله)، مما يتطلب التفكير في إيجاد صيغ تضمن التمويل القار للقناة.

جدل بنكهة سياسية

أثارت المسلسلات المكسيكية والتركية المدبلجة باللهجة المغربية حفيظة بعض المشتغلين في الحقل السياسي، من وزراء وبرلمانيين…، الذين هاجموا بشدة هذه المنتجات الدراميـة، ومنهم من اعتبرها هدرا لـ»أموال الشعب». إذ أكدت النائبة البرلمانية  جميلة مصلي، في تصريح لـ«المساء»، أن «قضية الدبلجة في المغرب كانت دائما موضوع نقاش يحضر بقوة في مناقشة الميزانية الفرعية لوزارة الاتصال، وتقريبا من مختلف الفرق البرلمانية، فالكل يجمع على أن ما يقع في الإعلام العمومي والممول من «دافعي الضرائب»لا بد أن يكون لهم رأي فيه».

مضيفة أن «هذا الجانب استأثر بالاهتمام وأثير في لجن برلمانية، وشخصيا في جميع المداخلات التي كنت أقوم بها، سواء في المعارضة أو الأغلبية، كنت أؤكد على أن ما يقع من دبلجة إنما هو جريمة في حق المجتمع المغربي، لأننا نقوم «بغسل دماغ ممنهج ومتدرج للأجيال»، واليوم بدأت الآثار تظهر.وباعتقادي، فإن التأخر الدراسي الذي يعرفه أطفال المغاربة والتفكك الأسري، يجب أن يربط بهذه المسلسلات التي اكتسحت شاشات التلفزة، ودمرت عقول المغاربة في ربوع المملكة».

واستطردت مصلي قائلة: «وزارة العدل لما قدمت الأرقام الرسمية لحصيلة مدونة الأسرة عشر سنوات من التطبيق، كان الرقم الصادم هو الرقم المتعلق بالطلاق وخاصة التطليق، حيث وصلنا إلى 40000 حالة  لسنة 2013، وفيها «التطليق للشقاق»، الذي ارتفع بوتيرة كبيرة ليصل إلى 39000 حالة، أغلبيتها لنساء يطلبن الطلاق.

إذا كان يجب علينا أن نكون منصفين في تحليلنا للأوضاع، فينبغي أن نربط ما وقع للمجتمع المغربي، وما يعيشه حاليا من اختلالات  اجتماعية وقيمية خطيرة بمسؤولية الإعلام الوطني، وينبغي أن يحاسب من اتخذ القرار في الدبلجة باعتبارها السبب الرئيسي في هذه «الفورة الجنسية» التي يعرفها المجتمع، والتي تصل إلى مستوى الدعارة».

وتضيف أنه «من الضروري حماية شبابنا، فإذا كانت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وضعت دفتر تصور حول حماية الناشئة، فنحن لا نحميها، بل ما نقوم به هو نشر عادات وتقاليد  منافية لعادات المغاربة، وإشعال «ثورة جنسية» بإيحاءات جنسية مباشرة ومبالغ فيها، وفي أوقات متفرقة وبلغة هجينة لا هي عربية ولا دارجة راقية، الشيء الذي يعتبر «قصفا جنسيا «لشبابنا المغربي، وليس الكلام هنا عن ناس عندهم حصانة ودرجة من الوعي والتمييز.ويظل من واجبنا كمجتمع حماية الناشئة والمراهقين..

فظاهرة الأمهات العازيات، مثلا، هي ظاهرة دخيلة وهجينة على مجتمعنا المغربي، فبحكم الاشتغال في المجال يبدو، من خلال معاينة بعض المدن المغربية، أن ظاهرة الأمهات العازبات في تزايد، وهذا سبب راجع إلى فتحنا «فوهة بركانية جنسية» لم نحم المجتمع منها.

إذا كنا قد عجزنا عن إيصال التعليم للقرى النائية، فيكفينا أننا استطعنا كهربتها، لتصل إليها هذه الإنتاجات المدبلجة، فعوض أن يكون الإعلام وسيلة لزيادة الوعي، صار الآن وسيلة دمار شاملة لأسر كانت في السابق محافظة، وأصبحت اليوم منعدمة الحياء».

وختمت مصلي قائلة إن «الإعلام يلعب دورا مهما في توجيه فكر الرأي العام وصناعة الآراء والتوجهات والسلوكات، لكن للأسف دائما ما تكون لغة الأرقام هي المبرر، سواء تعلق الأمر بالتكلفة أو بنسب «ماروك متري»، فبأي حق نقوم ببث جريمة لمسخ شعب بأكمله بهويته ومواطنته؟.

لذلك فلابد من حلول جذرية لإيقاف هذا الإجرام الذي يدمر الشباب المغربي، ويمحو هويته ويعطل آلية الإبداع الوطني والقدرات والمواهب المغربية، ولو أن معالجتها ستكلفنا أجيالا وأجيالا».

حملات مناوئة

في المغرب أيضا ظهرت حملات مناوئة للإنتاج الأجنبي المدبلج والتركي منه، خصوصا في بعض مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك، وعارضت جماهير واسعة ما يعرض على الشاشة المغربية. إذ  رفع جمهور أحد فرق كرة القدم لافتات كتب عليها: «بالأفلام المكسيكية قهرتونا وبالبرمجة عذبتونا»، محملة المسؤولية لقناة عين السبع، لكونها تهتم بالمسلسلات المكسيكية أكثر من كرة القدم، وتبعد الجمهور عن الملاعب. كما كانت هناك حملات فيسبوكية أيضا حملت تسميات مختلفة من قبيل: «حملة مليونية لإيقاف المسلسلات المدبلجة على القناة الثانية»، و«معا لحفظ القيم الإسلامية من المسلسلات التركية»، و«حملة حذف القناة الثانية المفسدة من جهاز الاستقبال».

إن مرامي هذه المسلسلات الدرامية، كما يبدو من خلال الشهادات والآراء التي استقيناها، لا تعدو كونها مادية صرفة، تشجع على جمع الأموال وترسخ قيم الرأسمالية التنافسية.

 ما يدور في فلك حلقات المسلسلات الأجنبية من أحداث، لا يعكس حقيقة حياة العائلة التركية المسلمة، بل يقدم أحداثا خيالية، بعيدة كل البعد عن الواقع المعيش، ومع ذلك، ورغم هذه «الكذبة الجميلة» التي يدركها المشاهد المغربي، فهو يحاول الهروب من الواقع، والبحث عن «السعادة» المنشودة.

صحيح أن الدبلجة موضة تتغير بتغير الزمان والمكان، وبحر لا ينضب من الكلمات والحروف. لكن الأًصح أنها بين هذا وذاك مشاكل تبحث عن حلول وتتشوف إلى أكثر من وقفة على أكثر من صعيد، فيكاد يكون ثمة إجماع لكل الأطراف على ضرورة وجود نقد متحرك يميز بين الجودة والرداءة.

عمر سليم*: المسلسلات المدبلجة تساهم في تدمير القيم الأخلاقية للمغاربة

مشاهدة الأفلام المدبلجة، في وقتنا الحالي، يجعلنا نقف على المجهودات التي قام بها رواد الفن المغربي، قبيل وبعد استقلال المغرب أمثال الراحل «إبراهيم السايح» «حسن الصقلي» و غيرهم من الفنانين، من أجل ترسيخ مفهوم الدبلجة كرافد من روافد تجربتنا الفنية.

لكن، وللأسف الشديد، باتت التلفزة المغربية، خاصة «القناة الثانية» تقدم برامج دون مصداقية، وتساهم في تدمير القيم الأخلاقية للمجتمع المغربي، فجلها عبارة عن مسلسلات مدبلجة باللهجة المغربية، تحتوي على كلمات رديئة تُسهِّل تمرير القِيَم السلبية والعادات السيِّئة إلى مجتمعنا، وتؤثِّر سلبا على التكوين اللغوي والفكري لأبنائنا.

أكيد أن وسائل الإعلام تلعب دورا حاسما اليوم في صناعة الرأي العام وتشكيل العقول، وإحياء  أو إسقاط الأيديولوجيات التي يستخدمها الشخص لاستكمال بناء الواقع الاجتماعي.. والذي لا يدركه بالخبرة المباشرة، خاصة الأطفال والمراهقين، باعتبار أن  مستوى الوعي الاجتماعي والثقافي للفرد العربي، لم يرق إلى مستوى يؤهله لبناء التصورات الحقيقية، مما سيخضعه لا محالة لمحتوى الرسائل الاتصالية التي تحملها إليه الإنتاجات الدرامية، خاصة إن كانت أعمالا تفتقر إلى المهنية وتسعى وراء الربح  المادي على حساب التكوين اللغوي والفكري..  الدارجة موجودة وليست بحاجة إلى جهود لنشرها داخل المغرب، ما دامت هي أداة للتواصل اليومي بين أبنائه، لكن أن تكون أساسا في التكوين أو في جل برامج  التلفزة، فهذا أمر غير مقبول، لأن العلم نفسه يفرض تطوير اللغة  كما قال الملك المرحوم الحسن الثاني:»من يعرف لغة واحدة فهو أمي»، فما هو حالنا إذا ما اكتسحت العامية بكل سلبياتها شاشات التلفزيون المغربي.

ففي الوقت الذي يجب السعي فيه وراء التحضر وتعلم لغات أجنبية، يقف أشخاص -لا يدركون حتى ماهية الدارجة- وراء نشر سياسة الجهل واللامبالاة داخل المجتمع المغربي، أما إذا كان الغرض من هذه المسلسلات هو نشر اللهجة المغربية، فاختيار أعمال ذات مستوى وكلمات ترقى بالمتفرج كفيل بذلك.. حان الوقت للنهوض وإنشاء إعلام بصري يحتوي على برامج تثقيفية ومسلسلات تليق بالمشاهد المغربي وترفعه إلى رتب أعلى، وذلك لن يتأتى إلا عن  طريق تغيير جذري في صفوف المسؤولين، سواء تعلق الأمر بمسؤولي الحكومة أو البرمجة.. لإطفاء نار مسلسلات درامية يصعب إخمادها، وإلى ذلكم الحين لا يسعنا إلا القول: «الله يرد بقناتنا الثانية».

* مدير البرمجة والأخبار السابق في القناة الثانية

مصطفى الخلفي *:  الأمر يتعلق بمنظومــــــــة لا أخلاقية تخالف القيم الحضارية للمغاربة

قال إن الهيـئة العليا للاتصـال السمـعي البصـــــــــري مطالبة ومدعوة إلى أن تتحرك إزاء هذه الاختلالات

– ماهو تقييمكم لتأثير الدبلجة على الانتاج الوطني ؟

 إن طبيعة الإنتاج الدرامي، خاصة في ما يتعلق بالمسلسلات التي قابلتها على مستوى الإعلام السمعي البصري في بلادنا، تطرح سلسلة من التحديات جرى التنبيه إليها في عدد من المحطات آخرها  أثناء مناقشة تقرير اللجنة البرلمانية التي قامت بزيارة استطلاعية للقطب العمومي في سنة 2012 وقدمت تقريرها هذا العام 2014، وكان موضوع المناقشة في مارس الماضي حيث طرح موضوع الدبلجة بحدة اعتبارا لآثاره السلبية على الإنتاج الوطني، وذلك حسب المؤشرات الرقمية التي كشفت هيمنة الإنتاج الدرامي الأجنبي مقابل المسلسلات الوطنية، وأن غالبية هذه الأخيرة هي إنتاجات معادة بحيث أن النسبة تتجاوز الثلثين إلى حدود 70% مقارنة مع المسلسلات الوطنية، مما يطرح تحديات على مستوى دعم الإنتاج الوطني ويطرح إشكالية منافسة الإنتاجات الأجنبية للإنتاجات الوطنية مما يفقد هذه المنافسة قيمتها، بغض النظر عن طبيعة البلد الذي تعود إليه هذه المسلسلات لأن هناك بلدانا متعددة.

– هل نسميه انفتاحا، في ظل عدم تماشى وخصوصية المجتمع المغربي؟

 هذه المسلسلات سواء أكانت من البلدان المشرقية أو بلدان أجنبية «أمريكو لاتينية»، تحمل معها مجموعة قيم وثقافات، ليست بالضرورة منسجمة مع الثقافة المغربية.

الانفتاح عندما يتجاوز حدود التوازن بين الإنتاج الوطني والأجنبي، يصبح حاملا لآثار سلبية على الثقافة الوطنية وعلى الهوية المغربية، لهذا كنت صريحا في البرلمان عندما قلت: «نحن نتطلع إلى تلفزيون مغربي يعكس الهوية المغربية، ولا نريد تلفزيونا نسخة طبق الأصل من تلفزيونات أجنبية، بغض النظر عما إن كانت من الشرق أم الغرب، فما نحتاجه هو تلفزيون مغربي يعزز المنتوج الوطني، والسيادة الوطنية والاستقلال الوطني. وأشرت إلى أن رصيد المغرب كبلد مستقر منذ قرون، يحتاج إلى أن  يدعم بإنتاج تلفزيوني مواكب، وأشرت، في الوقت نفسه، إلى الإشكالية الثانية القيمية، انطلاقا مما جاء في مناقشة اللجنة الاستطلاعية، عندما تم الاعتماد على الدبلجة بالدارجة، وحين ترتفع مخاطر الانزلاق نحو المس بالهوية الوطنية وقيمها ومرتكزاتها ومنظوماتها الأخلاقية، وهذا الأمر يتعارض مع مقتضيات الظهير المحدث للهيئة العليا للسمعي البصري ويتعارض مع المادة «165 «من الدستور التي تنص على احترام القيم الحضارية، ويتعارض مع «قانون الاتصال السمعي البصري» و»دفتر التحملات» المنظم لعمل القنوات».

أشير إلى أن هذا الأمر ليس فقط مسألة محلية، ولكنها مسألة تهم عددا من الدول، مثل فرنسا حيث أقدم «المجلس الوطني للسمعي البصري» على إنتاج دراسات حول هذا الموضوع، اعتبارا لأن الأمر لا يتعلق فقط بمنظومة القيم والثقافة، بل يتعلق أيضا بالمنظومة الاقتصادية، فعندما يتجاوز هذا النوع من الإنتاج حده وعندما يختل التوازن بين الإنتاج الوطني والأجنبي، يصبح مؤثرا في أنماط الاستهلاك وطبيعة المنتجات المستهلكة، وبالتالي يؤثر على التوازنات الاقتصادية وينتج عادات استهلاكية على حساب المنتوج الاقتصادي الوطني لفائدة المنتج الاقتصادي الأجنبي، فالأمر يحمل معه أبعادا اقتصادية كما يحمل معه أبعادا ثقافية.

– ما حجم التحركات في هذا المضمار، لدرء خطر «الماخور»الذي تحدثتم عنه؟

من الناحية الدستورية، الإعلام العمومي ملزم بتطبيق أحكام «الفصل الخامس» من الدستور، الذي نص على حماية التعبير الثقافي المغربي، وهذا يقتضي منا الاتجاه نحو التوازن بين الإنتاج الوطني والإنتاج الأجنبي، باعتبار أن التوازن يحقق الحماية كما يحقق الانفتاح.

على المستوى الحكومي، نحن نشتغل على احترام استقلالية الإعلام العمومي، لهذا عندما تثار بعض القضايا نحن نعمل على رفع الأمر إلى  «الهيئة العليا للسمعي البصري» باعتبارها بمقتضى الفصل 165 للدستور المسؤولة عن ذلك، ولهذا شرعنا في اللجوء إلى «الهاكا» وهو ما سيتعزز في المستقبل.

– هل نريد تلفزيونا مغربي؟ أم تلفزيونا يستنسخ تلفزيونات أخرى وقيما لا أخلاقية.. تقدمها إنتاجات أجنبية؟.

 لهذا كنت صريحا في البرلمان عند توظيف مصطلح «ماخور»، فالأمر لا يتعلق بشعار، بل بمنظومة لا أخلاقية تعكسها بعض الانتاجات التلفزيونية وهو ما يخالف القيم الحضارية للمملكة، وبالتالي «الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري»  مطالبة ومدعوة إلى أن تتحرك إزاء هذه الاختلالات».

– ماذا عن الأرقام التي تقدمها «ماروك متري»، والتي تعكس جماهيرية هذه المسلسلات؟

 تقارير «ماروك متري» مهمة جدا في هذه المسألة، وأذكر أن بين سنة 2013 و2014 أنجزت «ماروك متري» استطلاعا ميدانيا شمل أزيد من 3000 أسرة، هذا الاستطلاع أفضى إلى تكثيف هذا النوع من الانتاجات في العرض الوطني، كما أدى إلى التشجيع على الاستهلاك على مستوى القنوات المماثلة، والتي تعمل على تقديم عرض تلفزيوني يقوم على هذا النوع من المسلسلات، لذا لا يمكن منافسة الإنتاج الأجنبي بإنتاج أجنبي لأن المنافسة الحقيقية تتم بالإنتاج الوطني.

عندما ارتفع العرض التلفزيوني المرتبط بهذه المسلسلات في الإعلام العمومي، ارتفعت درجة استهلاكه على مستوى حاجيات المشاهد.

بالنسبة إلى الأحزاب التي دافعت عن الهوية الوطنية، كان «حزب الأصالة والمعاصرة « في مجلس المستشارين أول من طرح السؤال مدافعا عنها، وبالتالي القضية جماعية وواضحة، وهي قضية كل المغاربة المعنيين بالدفاع عن هويتهم الوطنية، بمختلف مكونات هذه الهوية، وبالتطلع إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى دون أن يكون هذا الانفتاح على حساب الهوية الثقافية المغربية.

– ماهي الحلول أمام غزو الدبلجة بالدارجة، وتحكم لوبي الاشهار؟

 قضية الإشهار وتنظيم علاقاته يحددها «دفتر التحملات» حتى تحافظ القنوات على احترام قواعد الخدمة العمومية، لكن لا يمكن أن يؤدي  الخضوع لشركة الإشهار إلى تخريب الهوية المغربية.

ما أشتغل عليه الآن هو تنفيذ المقتضيات القانونية، وتنفيذ «توصيات اللجنة البرلمانية» الكل عليه أن يتحمل المسؤولية: «الهيئة العليا للسمعي البصري» والمجلس الإداري للشركتين، ووزارة الاتصال، وأعضاء مجلس الإدارة، الجميع معني بتحمل المسؤولية، لأنها قضية جميع المسؤولين وجميع المغاربة للدفاع عن الهوية الوطنية.

الحل يكمن في احترام المقتضيات المنصوص عليها في دفتر التحملات والمقتضيات الدستورية، واستعمال لغة عربية سليمة، على اعتبار أن استعمال دارجة  غير راقية أحيانا يخدش الذوق العام والقيم الجمالية، فالدارجة لغة وسيطة وجميلة ومعبرة، وتقوم بوظائف تواصلية مهمة، وهناك مستويات وتنوع أيضا لهذا في المسلسلات المغربية، التي تعكس التنوع وتحظى بنسب مشاهدة عالية وتقدير من المشاهدين.

المشكل ليس في الدارجة بل في ماهية أية دارجة نستعمل ؟ هل نستعمل دارجة راقية  أم دارجة تعكس التنوع الثقافي؟.

* ‏وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة

رشيد الإدريسي*:بين التواصلي والإيديولوجي

الدبلجة حوار ثقافي

إن الدبلجة بوصفها عملية ترجمة صوتية لمنتوج درامي من لغة إلى أخرى، لا يمكنها إلا أن تحظى بالقبول، بل يجب تشجيعها على اعتبار أنها تحقق مبدأ التواصل بين الثقافات، وتتيح بذلك الفرصة للمتلقي للاطلاع على حضارات أخرى مختلفة. فالدبلجة أشبه بالرحلة التي كان يقوم بها الرحالة في الماضي، لكنها اليوم تتم دون أن يبرح الرحالة مكانه، والذي هو ليس إلا جمهور المتفرجين الذين تستهدفهم الدبلجة، والذين يتابعون «حكاية» ويتعرفون على عادات وتقاليد ويطلعون على أزياء… وبتعبير جامع، يمكننا أن نقول بأنهم يطلعون على نمط عيش، بالصوت والصورة، مختلف عن ذاك الذي اعتادوا اتباعه في بيئتهم الخاصة. ويكفي أن نعلم، لتأكيد قيمة الدبلجة في تحقيق التواصل، بأن اعتماد الترجمة المكتوبة أسفل الشاشة Sous-titrage من أجل نقل شريط سينمائي إلى لغة أخرى، يؤدي إلى تقليص نسبة متابعته بـما يقرب من 30 في المائة.

الدبلجة أنواع

إلا أن الدبلجة لا تحكمها دوما مقاصد إيجابية كالمذكورة أعلاه، فعندما يتم اللجوء إليها في إطار التنويع والتفاعل وتلبية رغبات شريحة من المشاهدين، ووفقا لما تتضمنه دفاتر التحملات، وفي إطار احترام التخطيط اللغوي الذي يفرضه القانون لهذه الدولة أو تلك، لا يثير الأمر أي رد فعل مضاد، بل على العكس من ذلك، يتم التعامل معه بنوع من التلقائية. وفي مقابل ذلك، قد تتحول الدبلجة إلى نوع من الخطة التي تلجأ إليها لوبيات تهيمن على قطاع الإعلام، فتعمل من خلالها على خلخلة الوضع اللغوي لبلد ما لتقليص حيز لغة ما لحساب لغة أخرى، وفي هذه الحالة يستلزم الوضع عدم الصمت وفضح هذه الخلفيات الإيديولوجية التي ترمي هذه الأقليات الفاعلة لتحقيقها، تحت غطاء التفاعل الثقافي الذي يخفي الإقصاء الثقافي البطيء والفعال معا.

 وهذه الحالة السلبية، للأسف، هي التي نجدها في المغرب؛ إذ الدبلجة بالدارجة المغربية تحولت إلى وسيلة تعتمدها أطراف بعينها بهدف تقليص حيز اللغة العربية الفصحى في الإعلام المغربي، ليسهل بعد ذلك إقصاؤها مستقبلا بشكل مطلق، وإسناد وظائفها إلى لغة أخرى معلومة. وأصحاب هذا «الطموح» الطوباوي يعملون على استنساخ التجربة الأوروبية وإعادة إنتاجها في الواقع المغربي، فقد استطاع الأوروبيون، حسب أصحاب هذا التصور، تأسيس لغات جديدة من بينها الفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإسبانية والكتلانية… وهي لغات منحدرة من اللاتينية العامية، أي لاتينية التواصل اليومي التي كان يتحدثها الرومان، الأمر الذي لم يكن ممكنا تحقيقه دون التخلي عن اللغة اللاتينية الكلاسيكية التي يراد للغة العربية الفصيحة أن تصبح مثلها، وهذا هو ما دفع المفكر المغربي عبد الله العروي للاحتجاج عليه بوصفه عملية تقويض للمجتمع المغربي ككل.

الدبلجة سيناريو

إن الحديث عن الدبلجة بالدارجة المغربية يجب أن يصحبه حديث عن هذا «الشيء» الذي تتم دبلجته. والأمر يتعلق كما هو معلوم بما يسمى بـ«التيلي نوڤيلا» Telenovela والتي يمكن ترجمتها بـ«الرواية التلفزية»، وهي سلسلات أمريكية جنوبية شديدة الطول، تنتجها دول مثل الميكسيك والبرازيل والأرجنتين وفينيزويلا والبيرو، وهي تقوم على حبكات تتمحور حول الغنى والفقر والظلم والعدل، والعلاقات بين الذكور والإناث والحراك الطبقي الاجتماعي؛ أي حول المال والحب والحظوة، بالإضافة إلى شخصيات ممثلة للفضيلة وأخرى للرذيلة. والنهايات في أغلب هذه السلسلات تكون عبارة عن عقاب يتم تسليطه على من يجسد الرذيلة، بينما ممثل الفضيلة يحصل على ما كان يصبو إليه وأكثر، وينصفه مسار الأحداث في النهاية السعيدة دائما.

لا شك أن الإقبال على هذا النوع من السيناريوهات ظاهرة عالمية لا تقتصر على المغاربة وحدهم، فهي ببساطتها وسطحيتها في الكثير من الحالات، تستقطب المتلقي. كما أنها افتراضيا تحقق للمتلقي ما يصبو إليه من أحلام العدل والغنى والرفاه التي يفتقدها في الواقع. إنها أشبه بالحكايات الشعبية لهذا العصر، وهي كهذه الأخيرة تكمن جاذبيتها في كونها تعبر عن الطبيعة البشرية والأهواء الإنسانية التي تتشابه لدى كل الشعوب بمختلف ثقافاتها، لذلك حضور هذه المسلسلات يشمل كل العالم وهي تدبلج في كل اللغات. إلا أنه في الوقت الذي تدبلج فيه بهدف مساندة ودعم وتقوية اللغات الوطنية بالنسبة للدول الأخرى، تدبلج في المغرب لضرب اللغة الوطنية الأولى أي العربية الفصيحة، ولخدمة الأجندة التي ترمي إلى نشر الفوضى في الحقل اللغوي المغربي أو لتعميقها أكثر، لتهييئ التربة لما سيقبل من سياسات في هذا القطاع الحساس.

خلفيات الدبلجة

من يصل إلى هذه النتيجة التي خلصها إليها، يفهم أن هذه الروايات التلفزية تتم دبلجة بعضها باللغة العربية الفصيحة بالموازاة مع دبلجة البعض الآخر بالدارجة المغربية أو بعضا من الدوارج العربية الأخرى، وأنه اليوم من أجل قطع الطريق على اللغة العربية، تم تغليب الدوارج وإعطائها الأولوية. وهذا بالفعل ما هو قائم أو ما كان قائما، فقد كانت هذه المسلسلات في مرحلة قريبة، تدبلج بلغة عربية فصيحة وتلقى نسب متابعة مرتفعة، لدرجة أنه ساد بين المغاربة، من باب النكتة، أن المكسيكيين يتواصلون فيما بينهم باللغة العربية الفصحى. وقد لعبت الدبلجة باللغة العربية الفصيحة دورا كبيرا في إغناء الحصيلة اللغوية للمتلقين المغاربة، إذ ظهرت الكثير من الألفاظ التي كانت مهملة وأصبحت جزءا من لغة التواصل اليومي. وهذه الحقيقة، إضافة إلى نسب المتابعة المرتفعة للبرامج العربية، تؤكد هشاشة الحجة المعتمدة في تبني هذا الخيار، والمتمثلة في تحقيق التواصل مع أكبر قدر ممكن من الجمهور المغربي. فالعربية الفصحى تحقق ذلك بامتياز، بالإضافة إلى ضمانها لتعدد المستهدَفين بالدبلجة، مما يضمن، من زاوية تسويقية، أرباحا إضافية على المستوى الاقتصادي.

* أستاذ جامعي وباحث في قضايا اللغة العربية

فؤاد بوعلي *: السؤال الذي ينبغي طرحه: لم الإصرار على ترجمة «الخردة» الدرامية؟

تصاعدت حملة دعاة توظيف العامية المغربية بكثافة في وسائل الإعلام والاتصال والترفيه المختلفة. حيث ظهرت في السنوات الأخيرة بعض العناوين تخاطب القارئ المغربي بلغته العامية أو «الدارجة» مستندة إلى مزاعم عديدة منها تقريب الخبر من المواطن العادي، كما ظهرت عدة إذاعات في مناطق البلاد تبث بالدارجة كليا أو جزئيا مستفيدة من بعض الانفتاح الذي شهده قطاع الإعلام السمعي البصري. والواقع أن هذه الدعوة قديمة قدم الهجمة على مقومات الأمة العربية لكنها اتخذت شكلا حادا في السنين الأخيرة، خاصة مع دبلجة المسلسلات الأجنبية. وفي هذا الإطار يمكن إبداء الملاحظات التالية:

1. عمد القيمون على القناة الثانية إلى دبلجة بعض المسلسلات التركية والمكسيكية إلى الدارجة ‘العامية’ المغربية، والأكيد أن الاختيار  ليس اعتباطيا، لأن الرسالة المتوخاة من دبلجة هذه المسلسلات بالدارجة  هي تمرير ما تروج له هذه المسلسلات من مفاهيم غريبة عن الجنس والخيانة الزوجية والتنافس من أجل المال وتحقيق المتع، وهو إجراء ينسجم مع محاولات فرض منظومة قيم أخلاقية جديدة يجب أن تأخذ مكانها في ممارسات المغاربة. ويكفي أن نتأمل في قائمة معارضي «صرخة» الوزير الخلفي في البرلمان لنفهم الخيط الناظم بينهم بالرغم من اختلافاتهم الإيديولوجية لكنهم مستفيدون من إشاعة القيم البديلة. والاستفادة مادية قبل أن تكون فكرية.

2. السؤال الذي ينبغي طرحه: لم الإصرار على ترجمة «الخردة» الدرامية؟ ولم لم تترجم الأعمال الكبرى أو المؤرخة لأعلام التاريخ والحضارة؟ الجواب بسيط هو أن وظيفة الدبلجة هنا هي تسطيح الوعي ونقله نحو مستويات كبرى من الابتذال. وهذه وظيفة جديدة للإعلام اكتشفها دعاة التلهيج بعد أن كانت أهم وظائفه الارتقاء بالوعي والفكر والقيم.

3. من الناحية اللغوية يمكننا مساءلة هذا المنتوج ومن وراءه: عن أي لغة عامية يتحدثون؟ وما طبيعة الألفاظ المستعملة في الدبلجة؟ في إطار دبلجة الأعمال الدرامية والثقافية تنص دفاتر تحملات القناة الأولى على الاستعمال الحصري للغتين العربية والأمازيغية في دبلجة الأعمال الأجنبية، وتلتزم القناة الثانية بسلامة اللغتين الرسميتين في الدبلجة. لكن الواقع الذي يلاحظ أن رهان القنوات الممولة من جيوب دافعي الضرائب المغاربة الذين ارتضوا دستورا  يحافظ على هويتهم وتعدديتهم، يقوم أساسا على تفسير خاص للنص وفق قناعات إيديولوجية واضحة يتمثل في حصر العربية في العامية ببهارات فرنسية. بل الأكثر هناك إصرار على التطبيع مع الألفاظ السوقية التي تعارف المجتمع على حصرها في دائرة الاستثناء كتعبير عن تمرد الأجيال والتدافع المجتمعي. إنما داخل نظام العائلة فاللغة المستعملة تكون عادة راقية وبعيدة عن الابتذال. لكن مع قناة سالم الشيخ أصبح المقصود بالعامية هو المرفوض اجتماعيا وعائليا وغدا الاستثناء قاعدة. كيف لا وهي تقدم الاستثناء في كل شيء مادامت تصر على تمرير قيم العنف والخيانة والتفكك الأسري… إلى غير ذلك.

4. نقطة أخيرة فيما يخص نسب الاستماع. اعتاد المسؤولون تبرير سلوكاتهم بنسب الاستماع والمشاهدة وهو معيار مغلوط.  لأنه بالمقياس نفسه  حسب تقرير «ماروك متري»، الخاص بسنة 2013، يتأكد أن حوالي 60 في المائة من المشاهدين المغاربة يفضلون متابعة برامج وأفلام ونشرات إخبارية تبثها قنوات فضائية أجنبية، مقابل حوالي 40 في المائة الذين يتوزّعون بين جميع القنوات التلفزيونية المغربية، وخاصة من فئة الشباب بحوالي 61.2 في المائة. أي أن الحديث عن الارتفاع والانخفاض في متابعة هذه المسلسلات لا يتجاوز 40 في المائة من مجموع المتابعة لكل القنوات المغربية. الأكثر من ذلك أن قياس المشاهدة يفقد منطقيته حين يوضع هدفا للإعلام وليس رسالة الإعلامي التي ينبغي أن تراجع في فهم من تسلط على عقول المغاربة وفرض عليهم أجندتها الفرنكفونية.

فالدبلجة التي تفرض السوقية على العائلة المغربية تهدد أمننا الاجتماعي والثقافي ومواجهتها القانونية من خلال تشريع يفرض احترام دفاتر التحملات والقوانين المغربية غدا أمرا مستعجلا.

* رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية

عبد المجيد الجهاد جامعي*: النساء وخصوصا ربات البيوت على رأس القائمة

شهد المغرب، مثله في ذلك مثل سائر البلاد العربية، منذ التسعينيات من القرن الماضي، دخول عصر البث الفضائي. غير أن هذا الانتعاش النسبي للقنوات الفضائية، لم ترافقه وفرة على مستوى الإنتاج المحلي، من برامج ثقافية وترفيهية، وأشرطة وثائقية ومسلسلات تلفزية، بإمكانها أن تستجيب لأفق انتظار المشاهد المغربي، وتسهم في إشباع حاجاته في الترفيه والمعرفة.

وفي ظل اشتداد المنافسة العربية والدولية في هذا المجال، وأمام تزايد الطلب على الإنتاجات الدرامية خاصة، وعدم قدرة المحلي منها على الاستجابة لتطلعات الجمهور وطموحاته، لم تجد الفضائيات الوطنية من مخرج لهذا الوضع، غير اللجوء إلى استيراد بعض هذه الإنتاجات نظرا لكلفتها البسيطة، مقارنة بما يتطلبه إنتاج برامج محلية من ميزانية باهظة.

وتتصدر المسلسلات المدبلجة، قائمة البرامج المستوردة، نظرا لما تحظى به من إقبال متزايد، وتعاطي واسع من لدن شرائح مهمة من الجمهور. وهو ما يطرح السؤال حول نوعية ما تسوقه هذه البرامج، ومدى ملاءمتها للتركيبة النفسية والسوسيوثقافية للمشاهد المغربي، وتأثيرها في تكوين المعايير والاتجاهات، وما يمكن أن يترتب عنها من انعكاسات سلبية على نسقه القيمي والثقافي عموما؟.

وفي غياب دراسات ميدانية لقياس الظاهرة وتحديد مداها وأبعادها داخل المجتمع المغربي، يمكننا التكهن بالتأثيرات السلبية للمسلسلات المدبلجة على شرائح خاصة من المتلقين، من خلال رصد بعض النتائج المستخلصة من دراسات ميدانية أنجزت في بلدان عربية مماثلة. حيث يمكن أن نلاحظ أن نسبة كبيرة من المدمنين على مشاهدة هذه الإنتاجات الميلودرامية المدبلجة هم من النساء، بحكم تدني مستوياتهن التعليمية. ولعل هذا ما أظهرته بعض الدراسات في مصر، حيث خلصت إلى أن نسبة النساء «الراشدات» تشكل 59 في المائة من الجمهور، بمقدار خمسة أضعاف قياسا إلى نسبة المشاهدة في صفوف الرجال، وترتفع مشاهدتهن في أثناء ساعات النهار، وخاصة لدى ربات البيوت، هذا فضلا عن الأطفال صغار السن الذين هم في سن ما قبل الالتحاق بالمدرسة. ولنتخيل التأثير الخطير الذي يمكن أن تحدثه هذه المسلسلات المدبلجة في إعادة تنشئة الأطفال على قيم وسلوكات، قد تتعارض جذريا مع القيم الثقافية الأصلية. كما رصدت هذه الدراسات وجود علاقة قوية بين الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والمستوى التعليمي من جهة، وارتفاع متابعة هذه المسلسلات، من جهة أخرى. إذ كلما زاد ارتفاع الدخل لدى الأفراد، كلما تضاءلت نسبة المشاهدة، والعكس صحيح. كما أنه كلما زاد عدد أفراد الأسرة، كلما كانت مشاهدتهم لهذه المسلسلات أكبر.

أما عن الدوافع التي تقف وراء التعاطي مع هذه المسلسلات، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن ارتفاع نسبة التعاطي مع هذه المسلسلات بين «الإناث» الراشدات خاصة، ترجع بالأساس إلى كون هذه الإنتاجات تشكل متنفسا لبعض النساء للهروب من واقعهن اليومي، أو مجالا لتحقيق نوع من الإشباع العاطفي لرغبات مكبوتة، من خلال التماهي مع شخصيات هذه الأفلام، خصوصا لدى الفتيات، فضلا عن التسلية والترفيه وتزجية الوقت.

وفيما يخص انعكاسات هذه المسلسلات على المستويين الاجتماعي والثقافي، فيظهر تأثيرها السلبي واضحا من خلال كيفية تناولها ومعالجتها لبعض القضايا الاجتماعية المرتبطة بالعلاقات الزوجية والعاطفية، حيث يقدم العنف والجريمة والخيانة والانتقام، باعتبارها بدائل للحسم في هذه العلاقات المضطربة، فضلا عن التطبيع مع العلاقات الجنسية خارج إطار مؤسسة الزواج.

أما من حيث لغة التعبير فلا أظن أن استعمال الدارجة المغربية يشكل تهديدا جديا للهوية، أو يتعارض مع مقومات ثقافتنا، بل على العكس من ذلك يمكن أن يشكل قيمة مضافة من شأنها إغناء الثقافة المغربية وتعزيزها، شريطة أن يحسن توظيفها واستثمارها، من خلال تشذيب هذه اللغة من العبارات والمعاني التي يمكن أن تصدم آليات الإدراك لدى المتلقي، واعتماد لغة وسيطة أقرب إلى اللسان العربي. ولنا في التجربة الرائدة للراحل إبراهيم السايح، أبرز مثال على قدرة الدارجة المغربية، على تقريب العديد من الأعمال الدرامية العالمية، وخاصة الهندية، إلى المشاهد المغربي.

ولعل من إيجابيات استخدام اللغة الدارجة في المسلسلات، في نظري، أن خففت نسبيا من ظاهرة الاغتراب التي يعيشها المشاهد المغربي، بل وصالحت هذا المشاهد مع لغته وذاته. وهو ما يبرز من خلال نسب المشاهدة العالية التي تحظى بها المسلسلات المدبلجة إلى الدارجة المغربية من طرف المشاهدين المغاربة.

* أستاذ باحث في سوسيولوجيا الإعلام

عبد اللطيف محفوظ *.. المسلسلات المدبلجة وسياسة الاغتراب

يمكن مقاربة الموضوع المطروح من قبلكم انطلاقا من ثلاثة مداخل متضافرة، وهي اعتماد العامية لغة للدبلجة، وثانيا خلفية انتقاء المسلسلات الأجنبية، وثالثا علاقة الصورة بالصوت:

1.الدبلجة وخلفيات استعمال العامية.

يصعب الآن انتقاد أنصار استعمال الدارجة، لاعتبارين أساسيين يتمثل الأول في كون التخطيط لهذه اللحظة قد تم منذ فجر الاستقلال، حيث اتخذ قرار نقل المسرحيات العالمية، قبل إخراجها، إلى الدارجة المغربية، إما عن طريق الترجمة إلى العامية مباشرة أو عن طريق إعادة تأليفها (الاقتباس)، وكان ذلك تنفيذا لإستراتيجية واضحة ومدروسة تتغيى، على المدى البعيد الذي نعيش بداياته الآن، إقصاء الفصحى من مجال التواصل الجمالي القائم على الصوت والصورة، تمهيدا لقطع الصلة معها في بقية أشكال التواصل العمومي السمعي البصري، والذي نلاحظ اليوم أن الإذاعات والقنوات التلفزيونية تجسده بلا هوادة. ومن الواضح أن هذا الاختيار الذي جرى تبريره بذريعة تتدثر بواقع الأمية المتفشية آنذاك. وقد كان مرتكز حججها كامنا في الإقناع بأن التواصل سيكون صعبا باللغة العربية الفصيحة. وهي ذريعة واهية بدليل أن المواطنين المغاربة بمختلف فئاتهم الاجتماعية العمالية والحرفية وحتى ربات البيوت.. كانوا حريصين على تتبع نشرات الأخبار عبر الإذاعة الوطنية والمحطات الدولية، وحققوا معها التواصل والتفاعل رغم أنها كلها ناطقة بالعربية الفصيحة. وقد خلق هذا نوعا من التقسيم القاتل بين لغة الفن (الخيال) ولغة المعرفة (الحقيقة الواقعية).. وكرس من ثمة تصورا يميز بين لغة التعبير الجمالي عن الخصوصية وحالات الروح، وبين التعبير التجريدي المعبر عن الكونية وحالات الأشياء العامة. ويضمر هذا التقسيم قسمات إيديولوجية مشابهة لتلك التي ظهرت بدايات القرن الماضي بمصر والتي عرفت «بالروح المصرية» والتي سعت إلى الاحتفاء بكل ما هو مصري تليد، وأضمرت رغبة أكيدة في تكريس العامية بعدها لغة للتواصل الجمالي. ويبدو أن الذين قبلوا بهذا التوجه لم ينتبهوا إلى أن مصر تخلو من مقومات الشرخ اللغوي لأنها بدون تعدد حقيقي (على خلاف المغرب العربي)، وأن لب الروح المصرية يتمحور حول الحضارة الفرعونية التي هي سابقة على اعتناق المصريين للديانتين الكبريين الإسلام والمسيحية اللتين يدين بهما الشعب المصري.. ومن ثمة فإن الصنيع المصري مبرر إيديولوجيا ومبني استراتيجيا، وهو ليس كذلك بالنسبة لبلدان المغرب العربي.

2ـ انتقاء المسلسلات الأجنبية:

من الصعب على غير المتابع للدراما التلفزيونية العالمية أن يقدم رأيا موضوعيا فيما تنتقيه القنوات المغربية أو العربية لمشاهديها، فلا بد أن المسلسلات الأجنبية بالآلاف، ولا شك أن من بينها السياسي والاجتماعي والترفيهي والتاريخي والمعرفي.. ولا بد أنها تتفاوت من حيث المستوى الجمالي وتختلف من حيث البعد الإيديولوجي. ولذلك فإن هذه المهمة الجسيمة يجب أن تناط بلجن متخصصة تضم السياسيين وعلماء النفس الاجتماعي والنقاد المتخصصين في الصورة.. لكي تكون عملية الانتقاء متحكم فيها، تخضع لاستراتيجيتين أساسيتين تتمثل الأولى في تمكين المشاهد والمبدع المغربي من الانفتاح على الفن الراقي العالمي وليس، فقط، على الحقيقة الاجتماعية المتصورة من قبل المخرجين الأجانب (والتي قد تكون حقيقة فعلية أو متصورة وحسب)، وتتمثل الثانية في انتقاء ما يدعم القيم الإنسانية التي لا تتعارض مع القيم الثابتة للثقافة المغربية ومقدساتها.

ـ3 علاقة الصورة باللغة وعنف الدلالة

إن المثير في الدبلجة بالعامية هو تضافر الصوت والصورة، ذلك أن البعد النفسي المصاحب للغة المساوقة للصورة أكثر تأثيرا في تقبلها وتأطيرها ثقافيا، إن الصورة وهي تقدم مصاحبة بلغة غيرية تبدو واضعة مسافة مع كل الناطقين غير الأصليين بها، أما حين تكون اللغة الأصلية متراكبة مع الصورة فإن المشهد يبدو أقرب إلى طبيعة الثقافة، ومن ثمة فإن قوتها الإقناعية وتأثيرها النفسي وترسبها في اللاوعي تكون أشد وقعا. وهذه الحقيقة هي التي تحقق الغاية من التلطيف والتبييئ الممنهج لتمثلات جديدة لواقعية اقتصادية وعاطفية جديدة. حيث تجعل اللغة اليومية المدبلجة العالم الممكن للمسلسلات كما لو كان عالما ممكنا مغربيا. وفي هذا التزاوج الفريد بين العامية الحميمية والصورة الغيرية يكمن خطر التأثير اللاواعي على الناشئة.

* أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بنمسيك كاتب وناقذ

عبد الله شريف وزاني *: ضرب في العمق للحضارة والدين

الأحكام الشرعية في ديننا الإسلامي الحنيف قائمة على تحقيق المصالح ودفع المفاسد، حتى تقررت قاعدة كلية أصولية أنه حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، ومفهومه أنه متى تحققت المفسدة في أمر ما فليس فعلها من شرع الله.

وبتطبيق هذه القاعدة العامة على موضوع الدبلجة الإعلامية وأثرها على الواقع التربوي والتنموي لبلد ما، فإن النتيجة الحتمية التي يمكن أن يخرج بها الباحث المنصف، أن هذا الفعل وإن سلم ظاهره، لكن لا مندوحة من القول بتحريمه ومنعه، لما يترتب عليه من مفاسد محققة لا يختلف في ضررها على الأفراد والمجتمعات اثنان.

ذلك أن بلدا كالمغرب له مكوناته الثقافية والدينية والأخلاقية التي بها كانت حضارته وعليها قيامه ونموه وبدونها لا يتحقق الاستقرار الاجتماعي والثقافي والفكري، فكل ما يطعن في هذه المكونات العامة التي هي مظاهر خصائصه، فالقول بمنعها لازم محتم.

فكيف إذا علمت أن دبلجة المسلسلات والأفلام التي تستورد من بلاد تختلف قناعاتها الأخلاقية عن أخلاق الإسلام، جملة وتفصيلا، فإن تسهيل تطبيع الجمهور المتابع لها مع المبادئ المستوردة أمر ظاهر، فيصير بالدبلجة، خاصة، عاديا مألوفا عند الخاص والعام والكبير والصغير، شرب الخمر والصلاة في الكنائس وخيانة الزوج لزوجته والقبل بين الأجنبي والأجنبية والساقط من الكلام، وغير ذلك مما ينخر قواعد المروءة التي عليها قوام أخلاق الإسلام، فلا قائل أصلا بجوازه شرعا ولا عقلا ولا واقعا ولا تجربة.

بل إن كثيرا من الدول الغربية والآسيوية منعت هذه الدبلجة لما شعرت بأثرها السيئ على ثقافتها وتاريخها ولغتها فكيف بدولة الإسلام التي متعها الله بالخيرية وجعلها الله متبوعة لا تابعة.

ومن مفاسد هذه الدبلجة أنها تضرب في عمق الحضارة والدين، بذلك القضاء بطريقة أو بأخرى على اللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة القوة والعدة والتميز والشرف، ومتى ما كان موضوع الدبلجة ملائما موافقا للقيم الكونية الإسلامية على المستويات الأخلاقية والتربوية والجمالية، أصبح مستحبا القيام بها إن لم يكن واجبا، بشرط أن تتم إما بلغة عربية أنيقة أو بعامية مغربية رفيعة تنأى عن السوقية وعن كل ما يخدش المروءة والحياء.

*  أستاذ باحث في الفكر الإسلامي

مصطفى المسناوي*: الهدف هو محاربة حضور اللغة العربية في المجتمع المغربي والانتماء العربي للمغرب

– ما رأيكم في الدبلجة من وجهة نظر تخصصكم؟

< الدبلجة إلى الدارجة المغربية ليست وليدة اليوم، وكلنا يذكر ما قام به المرحوم إبراهيم السايح بالنسبة للأفلام الهندية. لكن الجديد اليوم أن الأمر يتعلق بالتلفزيون لا بالسينما وفي سياق مختلف تماما كل الاختلاف لا نملك معه إلا أن نثير مجموعة من التساؤلات.

أول تساؤل يتعلق بالسوق، فكل شركة تقوم بعملية الدبلجة تفكر في السوق من أجل تغطية مصاريفها قبل التفكير في الربح المادي، وكلما اتسعت السوق كان معنى ذلك أن الأرباح ستكون أكثر. حين ندبلج العمل التلفزيوني إلى الفرنسية فمعناه أن سوقه الافتراضي هو كل البلدان الناطقة بالفرنسية، والشيء نفسه يمكن قوله عن الدبلجة إلى اللغة العربية التي تفتح أمام المنتوج كل السوق العربية (بما فيها من قنوات أرضية وفضائية). لكن حين ندبلج إلى الدارجة المغربية فمعنى ذلك أن منتوجنا غير قابل للبيع خارج الحدود، كما أنه لن يجد أمامه سوى قناتين تلفزيونيتين أو ثلاث في أحسن الأحوال. التساؤل هنا لا يمكنه إلا أن يتشعب في مسارات مختلفة: إذا كان شراء العمل التلفزيوني (المسلسل، والحالة هذه) قد تم بسعر السوق فإن مدبلجيه خاسرون لا محالة، ما عدا إذا كانوا اشتروا حقوق مسلسلات قديمة (خردة) مرمية في الأرشيف، أو تحايلوا على شراء تلك الحقوق، أو كانوا يتوفرون على «جهات» تغطي على خساراتهم لأسباب لا علاقة لها بالمسلسلات ولا بالتلفزيون.

بالنسبة إلى التحايل على شراء الحقوق يمكن الإشارة إلى «عيب مهني» ملازم لمعظم المسلسلات المدبلجة إلى الدارجة، بما يوحي بأن اقتناءها ربما لم يتم من أصحاب الحقوق الأصليين وإنما من الوسطاء (وما أكثرهم). إن الدبلجة المهنية تقتضي اقتناء العمل التلفزيوني الأصلي مرفوقا بثلاثة أشرطة للصوت (شريط الحوار، وشريط الموسيقى، وشريط المؤثرات الصوتية)، وذلك لكي يدبلج شريط الحوار وحده ويتم الحفاظ على الموسيقى والمؤثرات كما هي؛ لكننا نلاحظ في المسلسلات المدبلجة، عندنا، أن «الشغل» يتم على شريط واحد، يضطر معه التقنيون إلى «مسح» الموسيقى والمؤثرات لحظة الحوار، وإبقائها خارجه فقط. (نضيف، كذلك، اللجوء إلى مدبلجين هواة، بدل الممثلين المحترفين).

أما بالنسبة إلى «الجهات» التي قد تغطي على الخسائر المالية للمدبلج المحلي فالشبهات قائمة بشأنها، أساسا لاندراج عملية دبلجة المسلسلات إلى الدارجة المغربية ضمن مخطط عام، تتضح مقاصده يوما بعد يوم، يهدف إلى نشر الدارجة في كل مكان، في التلفزيون والملصقات الإشهارية والكتب… بل وحتى في التعليم. هل هذا كله مجرد «غرام» بالدارجة لوجه الله، أم أن الهدف هو محاربة حضور اللغة العربية في المجتمع المغربي، والانتماء العربي للمغرب؟ مع ملاحظة أن المستفيد من هذه المحاربة لم يعد اللوبي الفرنكوفوني وحده ببلادنا، والجهات المعلومة التي تقف خلفه، بل انضمت إليه جهات خارجية أخرى قد تكون أكثر خطورة. الغريب هنا أن دعاة الانعزال (داخل الدارجة) يعتبرون ذلك «حماية لنا» من «التخلف» العربي المشرقي، ويتناسون أن اللغة العربية هي وسيلتنا لنقل «التجربة المغربية» المتميزة إلى باقي البلدان العربية ومن ثم يتخلون طوعا عن «قوة ناعمة» يمكن لبلادنا أن تكسب منها الكثير.

التساؤل الثاني يتعلق بنوعية الدارجة المستعملة في هذه المسلسلات. إن العامية المغربية  فيها مستويات متعددة: هناك عامية راقية تحببك في دارجتنا، مثل تلك التي اشتغل عليها الفنان الكبير الراحل أحمد الطيب العلج والزجال والمخرج السينمائي الراحل حسن المفتي. لكن مروجي المسلسلات المدبلجة بالدارجة يلجؤون إلى عامية منحطة جدا، عامية «الزنقة» والشارع، التي كنا ونحن صغار (بل ولا زلنا إلى الآن) نسمعها فنخجل من أنفسنا، في الشارع وليس في التلفزيون. فإذا بها تصير اليوم في قلب بيتك! قد يقول أحد «المحللين الجدد»، وما أكثرهم اليوم، إن هذا هو الواقع ولا ينبغي أن نخجل من نقل الواقع كما هو للمشاهد. هذا قياس مغلوط، لأن الأمر يتعلق، من جهة، بالتلفزيون، أي بوسيط ما زال مرتهنا بالمشاهدة الجماعية (المسماة عائلية)، وليس بالسينما التي تتجه أكثر فأكثر نحو تركيز تقليد المشاهدة الفردية؛ ومن جهة أخرى لأن الإبداع الفني يقتضي إعادة بناء الواقع جماليا وليس النقل الحرفي لبعض جوانبه البشعة أو المنحطة. حتى في أكثر الأفلام الأمريكية اقترابا من واقع الشارع، مثلا، نجد بناء جماليا لمثال أو نموذج يتجاوز ذلك الواقع للدفاع عن قيم المجتمع كما تمت صياغتها عبر تاريخ هذا البلد.

التساؤل الثالث يتعلق بالضرر الثقافي الكبير الذي تخلقه الدبلجة إلى الدارجة: إن مشاهدة المسلسلات في لغاتها الأصلية (أو مدبلجة إلى الفرنسية أو العربية، مثلا) سيثير لدى المشاهد فضولا لتعلم لغات أجنبية أو لغات جديدة، كما سيؤدي إلى فتح آفاقه على ثقافات وعوالم أخرى من شأنها أن تنمي شخصيته وتعمل على تطويرها (بل وتفتح أمامه إمكانات جديدة للشغل والعمل). أما تقديم هذه المسلسلات باللغة الدارجة فهو دعوة ضمنية للمشاهد (الذي يعاني من الأمية والتخلف) إلى الاكتفاء بأميته وتخلفه، بل وإلى الفرح والسعادة بهما؛ والخروج من دائرة «التنمية البشرية»، في جوانبها الروحية (اللامادية) الأخطر بكثير من جوانبها المادية.

التساؤل الرابع يذهب بنا، مباشرة، إلى مسألة جوهرية، وهي أن المسلسلات المدبلجة إلى الدارجة المغربية يتم التحايل بها وتقديمها على أنها «إنتاج وطني»، و«دفاتر التحملات» ليست صارمة هنا بما يكفي. وبالتالي: لماذا لا نتوقف عن الدبلجة ونتجه مباشرة إلى الإنتاج الوطني؟ خاصة أن المسلسلات المدبلجة (إلى العربية أو الشامية) يمكن متابعتها عبر مئات الفضائيات العربية. وإذا كان المشرفون على القنوات العمومية يبررون خيارهم بتدني كلفة المسلسلات المدبلجة مقارنة مع المسلسلات المحلية فإنهم ينسون في هذه الحالة المثل المغربي الذي يقول «عند رخصو تخلّي نصو» أو «تخلّيه كلّو»، في نهاية المطاف. إن ارتفاع كلفة الإنتاج الوطني لا يعني أن من السهل تعويضه بإنتاجات «مزوّرة» نغلفها ببعض «التوابل» المحلية (الدارجة)، وإنما يعني فحسب أنه من الضروري التركيز عليه وتوفير المبالغ المالية الضرورية لدعمه بشكل متواصل، لأن ما يحتاجه المشاهد ليس صورة أخرى ناطقة بما يشبه أن تكون لغته، وإنما هو في أمس الحاجة إلى صورته هو بالذات، لكي يرى نفسه كما هي ويقوّم صورته ويطور ذاته إلى الأحسن.

– ماذا عن تأثيرات هذه المسلسلات، بما في ذلك هدم القيم؟

 فعلا، التساؤل حول القيم أساسي بالنسبة إلى عدد كبير من هذه المسلسلات. وهو ما يؤكد، من جهة أخرى، أن عملية الدبلجة ليست مجرد مسألة تقنية وإنما هي بحاجة إلى قرار سياسي وثقافي كبير. لأوضح الأمر أكثر: حين نشاهد، نحن المغاربة، مسلسلا مكسيكيا، مثلا، بلغته الأصلية أو مدبلجا إلى اللغة الفرنسية فإننا نحافظ على مسافة سوسيو- ثقافية بيننا وبينه. وكل ما يحصل في المسلسل يظل بالنسبة إلي كمشاهد مغربي منتميا إلى عالم مختلف عن عالمي، بما يعني أن ما يتضمنه، مثلا، من ديكورات وملابس وحركات و«اختلالات قيمية» (من قبيل شرعنة الخيانة الزوجية وحمل المراهقات خارج الزواج) سيظل بالنسبة إلي عبارة عن «غرائب» (أو «مغرّبات»، كما نقول بالدارجة) تنتمي إلى عالم عجيب وبعيد عني، أستغرب ما فيه وأدرك، تلقائيا وبناء على هذا الاستغراب، خصوصية عالمي وقيمي بما يدفعني إلى التشبث بهما وقد أدركت اختلافهما عما أراه أمامي على شاشة التلفزيون.

أما حين أشاهد هذا المسلسل نفسه مدبلجا إلى لغتي الدارجة فإنني أدفع دفعا إلى التماهي معه، وبدل اتخاذ مسافة تجاهه سوف أتعامل معه باعتباره حاملا لقيم سوسيو – ثقافية نموذجية، جديرة بالتقليد والاحتذاء. لا أتحدث هنا عن المشاهد ساكن المدن الذي يملك حظا من التعليم، وإنما أتحدث عن المشاهد القروي الذي يعيش ضمن بنيات اجتماعية تقليدية والذي لا يملك حظا من التعليم يوفر له حدا أدنى من المناعة تجاه ما يراه أمامه في تلك المسلسلات. إنه سيتصور أن الحضارة والمدنية هي هذه بالضبط، ولنا أن نتصور ما يمكن أن يحصل انطلاقا من ذلك على مستوى التصورات والعلاقات الاجتماعية والقيمية. إنه الفوضى والدمار، دون شك، والدفع بمجتمعنا نحو المجهول.

هذا علما أن معظم المسلسلات المكسيكية والبرازيلية حين تصور في مجتمعاتها فليس لكي تعبر عن الواقع وإنما لأجل الإمتاع والترفيه. فالمجتمع البرازيلي محافظ جدا لكن المسلسلات تعرض لتقوم بأثر عكسي، لأننا لما نبرز الجوانب السيئة في المجتمع نعزز القيم الموجودة فيه، عكس ما يحصل عندنا حين تدبلج تلك المسلسلات.

قبل بضعة أشهر أثارت وسائل إعلامنا ظاهرة أطلق عليها اسم «التشرميل»؛ وتتلخص في تباهي مجموعات من المراهقين بما سرقوه وبحمل الأسلحة البيضاء في صور يقومون بنشرها على الشبكات الاجتماعية. بعض الخبراء الاجتماعيين والنفسيين أشاروا إلى الدور الذي لعبه غياب الأسرة والمدرسة في الظاهرة، لكن لا أحد أشار إلى «القيم الجديدة» التي تحملها المسلسلات المدبلجة ودورها في تخريب القيم المحلية وتنامي الظاهرة.

هذا من الأمور التي تجعل سياق الدبلجة اليوم مختلفا عن سياق دبلجة المرحوم السايح للأفلام الهندية. لقد صار المشاهد معرضا لتأثير الصورة بشكل كبير، في الماضي لما كنا صغارا لم يكن التلفزيون حاضرا بقوة مثلما عليه الحال اليوم، كانت هناك قناة تلفزيونية واحدة تشتغل خمس ساعات، ولم تكن كل البيوت تتوفر على جهاز التلفزيون. وفي بعض المناسبات كان الجيران، الذين لا يتوفرون على جهاز، يجتمعون حوله في بيت من يتوفر عليه، لمشاهدة سهرة أو شيء مهم. أما اليوم فإن خيار بث الفضائيات 24 ساعة والقنوات المتعددة جعل المشاهد محاصرا من جميع الجهات، لا يقرأ الكتب ولا يتمتع بالموسيقى وبالعروض المسرحية والفنية بل يشاهد صور التلفزيون (أو الصور عبر الإنترنيت) فحسب. مع ارتفاع نسبة الجهل والأمية، فإن الخشية قائمة من أن يؤدي ذلك إلى كائنات جوفاء تماما، لا يعوّل عليها في شيء ولا يمكن تحميلها أي مسؤولية، وعلى رأسها الدفاع عن البلاد وعن مؤسساتها تجاه كل خطر محتمل.

معنى هذا، بعبارة أخرى، أنه يخشى أن تكون المسلسلات المدبلجة إلى الدارجة مندرجة ضمن تصور متخلف لدور الإعلام المسموع المرئي (والإعلام عامة) يزيل منه كل بعد معرفي وثقافي ويجعله مجرد أداة لإلهاء الناس وتسطيح وعيهم. لا نملك هنا إلا أن نتساءل، مرة أخرى، عن «نوعية» المواطن (أو «فرانكنشتاين»، في الحقيقة) الذي نقوم بصنعه وتهيئته من الآن لكل «الاستحقاقات» المقبلة؟

– من المسؤول عن كل هذه الآثار.. وما الحل في نظركم؟

 مسألة دبلجة المسلسلات الأجنبية إلى الدارجة صارت شأنا عاما، ومن ثم فإن الجميع يتحمل المسؤولية في نقاشها وإيجاد حل لها، المسؤولون السياسيون والمثقفون والأساتذة المختصون والخبراء والمجتمع المدني، حتى وإن كانت «الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري» (الهاكا) هي المسؤولة عن الموضوع من الناحية القانونية. وهنا لا بد من التأكيد على أمرين: أولهما حقيقة أن وسائل الإعلام العمومية لم تعد «تابعة» (ولو نظريا) للحكومة ولا لوزارة الاتصال، تحديدا، منذ إنشاء الهيئة المذكورة؛ وثانيهما ضرورة تطوير أداء هذه الهيئة لجعلها أكثر استقلالية وقدرة على ممارسة مهامها بجرأة وشجاعة.

كل ذلك في أفق إيجاد حل «جذري» للمسألة قد يتمثل في وضع خط تحريري جديد للإعلام العمومي المسموع – المرئي، يركز على «تكاملية العرض» بين القنوات، وعلى المعرفة والتثقيف  (والترفيه الراقي) وعلى تطوير الشروط الكفيلة بإعطاء الأولوية للإنتاج الدرامي الوطني بما يملأ معظم ساعات البث، مع الوعي بأن «صناعة الخيال» لها كلفة مرتفعة لكن أرباح البلاد (المادية واللامادية) منها لا تقاس، على المديين المتوسط والبعيد.

* كاتب وناقد سينمائي وتلفزيوني

هموم الجسم التلفزيوني المغربي

«إنتاجات الحريرة».. هل أصبح المنتوج المغربي رهينة شهر رمضان؟

ثمة معاناة  تتقاسمها إنتاجات درامية وفنانون مغاربة، معاناة تتمظهر بوضوح مع هيمنة المسلسلات الصابونية على مدار السنة، حيث لا نكاد نرى الإنتاج الوطني إلا في شهر رمضان إلى درجة ذهب فيها البعض إلى وصفه بإنتاجات «الحريرة». ونحن في لقائنا بعدد من الفنانين والمنتجين والمخرجين وكتاب سيناريو المغاربة وقفنا على آراء في مجملها تفتح الأحضان للمنتوج الأجنبي المدبلج شريطة قبول تصدير الإنتاج الوطني المغربي وتقديره وتقدير الفنان المغربي.

محمد خيي 

لما سمعنا بمولود جديد في المغرب اسمه الدبلجة إلى الدارجة العامية استبشرنا خيرا، على اعتبار أن شيئا مهما سينضاف، وسنرى لهجتنا المحلية، وستعطانا مساحة أكبر للتعبير مادامت الأعمال المدبلجة التركية، منها والمكسيكية، تتابعها شعوب عربية. فبما أن دارجتنا قريبة من اللغة العربية الفصحى، ستصل إلى جمهور عريض، وضمنيا ستفتح شهية المشاهد المغربي لمتابعة المنتوج المغربي..

لكن المشتغلين في حقل الدبلجة قاموا، للأسف، بالعملية دون تحضير مسبق أو تعب. فمما لا يختلف عليه اثنان، ينبغي أن يكون لدى المدبلج تكوين يخدم به الشخصية المدبلجة ويعطيها الروح..مادامت هذه الأخيرة لا تظهر إلا من خلال صوته وتجسيده. فالجمهور ينشد للقصة ويتابعها ليس حبا في الدبلجة، ولكن لأن الأعمال الدرامية التي نستوردها من الأتراك محبوكة دراميا.

ورغم ذلك،  فقد صارت هذه الإنتاجات، اليوم، تعتمد الروتينية، وتفتقر إلى العمل على الشخصية. وأرى أنه لا يوجد لدينا مخرج متخصص يشتغل مع ممثل ليؤدي بحب وعمق.

 السؤال الذي ينبغي أن يطرحه الممثل أو المدبلج، ابتداء، هو: إلى أي حد يمكن أن أقنع الجمهور بهذه الشخصية؟ لأن دبلجة الشخصية تتطلب إحساسا عميقا، ليصبح الممثل /المدبلج عند المشاهد صورتين طبق الأصل.

إذن لابد من ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو أكفاء وحوار فيه سلاسة ومتعة لأن عدم التحضير المتقن من قبل المدبلجين يجعلنا نصل إلى أن الهاجس المادي، وإن كان زهيدا، هو المتحكم، وإن كان من تفنيد لهذا الرأي، فلم لا يجلبون الممثلين المغاربة لهذا المجال؟ الجواب جلي، وكل هذا يلعب ضد الدارجة والفن..

الإنتاج الوطني من الضروري «مغربته»، وأن يعكس للجمهور مشاكله ومعيشه. كما عليه أن ينقل إلى الشعوب الأخرى وإلى هذا الجيل والأجيال الصاعدة مجموعة من القيم والأفكار البناءة.. فكلما عرف المغربي بلده وأجداده أحب الوطن وكبرت وطنيته، وصارت لديه غيرة عليه. المشاهد المغربي يحب الإنتاج الوطني الذي لم ينفك عن التطور ويرغب فيه. والأجمل أن الجالية المغربية وشعوب أخرى تتابعه في رمضان.

إن الواقع الفني الراهن يعكس أزمة لدى الممثل والتقني، فيتم  تسريع العمل الفني الوطني لتقديمه في رمضان، أو كما يقال مع «الحريرة»، وهو ما يجعله يفتقر إلى الجودة، وقد يكون في غير المستوى المطلوب.

نحن نرحب بالمنافسة، ونطلب من المسؤولين الدفع بما هو وطني. كما نطالبهم بأن تكون لدينا غيرة على تاريخنا الغني، وأن يعطوا الأولوية للمنتوج الوطني.

محمد نجدي

الدبلجة إلى الدارجة المغربية لم تكن في المستوى المطلوب نظرا لاستعمال ترجمة حرفية تملؤها مصطلحات دخيلة، بل تشكل خطرا على مستوى قيم المغاربة وهويتهم من خلال إقحام قيم غريبة عليهم، وتسهيل ترويجها من خلال الدبلجة بالدارجة.

فهذه المسلسلات يجب أن يشتغل عليها كتاب سيناريو مختصون لكي لا نقع في خطأ الترجمة الحرفية، فالدبلجة تواجه مشكل تعدد الدارجات بالمغرب، وهنا تكمن صعوبة اختيار دارجة موحدة ترضي الجميع، وهذا يتطلب وقتا طويلا وجهدا للوصول إلى النتيجة المرغوبة.

أنا لست ضد الانفتاح الثقافي، فلا بأس من أخذ ثقافة الآخر، لكن بشرط عدم التأثر بها وتوفير إمكانيات مادية وتقنية…لكتاب السيناريو وإدماج المحترفين منهم، واقتناء مسلسلات تتماشى وثقافتنا، كفيل بأن يجعل الدبلجة بالدارجة تأخذ منحى معينا تنافس به كل من السورية وغيرها.  لكن دون أن ننسى المنتوج الوطني الذي يجب أن يشكل النسبة الكبرى في الإنتاجات الوطنية لأجل خدمة الهوية المغربية. فالإنتاج المغربي بإمكانه أن يبرز بشكل إيجابي لو أتيحت له الإمكانيات الضرورية ووجه الوجهة الصحيحة عوض حصره في الابتذال.

حسن غنجة

هذه المسلسلات المدبلجة بالدارجة التي نقوم باستيرادها من الخارج تعتبر دخيلة على شاشاتنا المغربية، بحكم أنها تنقل صورة لمجتمع آخر، وبلغة تجعل من السهل نقل قيم عبرها، غالبا ما تكون سلبية وبعيدة عن قيمنا. الأدهى من ذلك أنها تكرس لاستعمار ثقافيٍ جديد، بما تحمله إلينا من ثقافة بلدان أخرى لها ما لها وعليها ما عليها، وتفرض علينا التعايش معها كأنها جزء من الإعلامِ المغربي، وما هي إلا نتيجة غياب استراتيجة وغياب الإمكانيات بحكم أن الإنتاج الوطني يتطلب أموالا طائلة. فهذه المسلسلات أصبحت تحتل الواجهة في قنواتنا باعتبارها البديل لسد ثغرات ضعف الإنتاج الوطني.

من المعروف أن المسلسلات المدبلجة عموما والتركية خصوصا تلقى رواجاً مُنقطع النظير في القنوات العربيّة الفضائيّة، وتحظى بنسبة مشاهدةٍ عاليةٍ، لكن هذا ليس مبررا لجعلها تشكل النسبة الأكبر في البرمجة.

نحن مع أن يكون هناك انفتاح على ثقافات أخرى، وأن نقوم باستيراد برامج أجنبية، سواء كانت مسلسلات أو أفلاما، لكن دون الإضرار بقيم متلقيها، خاصة الجمهور الناشئ، ولا الإضرار بالمتوج الوطني الذي  يعاني التهميش، ويتم البحث عنه في القنواتِ المغربية كأنه إبرةٌ في كومةِ قشّ أو انتظار شهر رمضان، الذي تشكل فيه الأعمال المغربية 5 في المائة من البرامج المبثوثة، فهناك مواهب وفنانون مهددون بالبطالة إذا لم توضع إستراتيجية وقوانين تحد من هدا الغزو الأجنبي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمسلسلات المدبلجة، التي أصبحت تحظى بنصيب الأسد في قنوات القطب العمومي، وتُعرض خصوصا في أوقات الذُّروة.

نحن مع الاتنفتاح على ثقافة الآخر، لكن ليس على حساب المنتوج الوطني ولا على حساب قيمنا. فبعد تحرير المجال السمعي البصري الإعلامي في المغرب، وفتح المجال للخواص لامتلاك إذاعات خاصة، نجد غالبية هذه الإذاعات الخاصة تعتمد اللغة العامية. فهذه الرخص التي تعطى لأشخاص بعيدين عن الميدان لتأسيس شركات السمعي البصري كان الأجدر أن تعطى لأناس أكفاء  وذوي خبرة طويلة في الميدان.

بعيدا عن المواطن المغلوب على أمره، فالمسؤولية هنا يتحملها الجميع، سواء كان الامر يتعلق بمسؤولي البرمجة الذين أصبحوا رهائن للمعلنين، باعتبارهم الممول الرسمي للقناة أو بغيرهم.  وقد حان الوقت للحد من هذا الغزو الأجنبي بوضع قوانين  تحمي المنتوج والفنان المغربي من التهميش.

أمال تمار

تعتبر دبلجة المسلسلات بالدارجة المغربية خطوة جريئة ومتميزة ومبادرة جديدة، بحكم أنها كسرت هيمنة الدبلجة السورية واللبنانية على السوق الفنية المغربية. ومن هنا لابد من التفكير في دبلجة أعمال فنية كبرى، ذات مستوى فني وفكري متميز، بعيدا عن دراما لاتتناسب وانشغالات المغاربة.

«الدبلجة بالدارجة» مكنت المشاهد من التعرف على ثقافات وعادات بلدان أخرى بلغة مبسطة، وجعلت من السهل على بعض الفئات فهم أحداث الدراما المدبلجة.

لكن هذا لا يعني هيمنتها على التلفزة المغربية، لدرجة تصبح  فيها جل البرامج عبارة عن مسلسلات أجنبية مدبلجة لمدة تتجاوز 7 ساعات في اليوم، فالإنتاج الوطني يجب أن يشكل النسبة الكبرى في البرامج، إذ لا يعقل أنه علي مدار السنة لا توجد أعمال مغربية، بالموازاة مع ذلك يكون هناك فائض من الأعمال الأجنبية المدبلجة.. فهل علينا انتظار «رمضان» لإنتاج أعمال مغربية؟؟..

نحن نؤيد أن يكون هناك تبادل ثقافي، عن طريق استيراد أعمال أجنبية وترجمتها بالدارجة. لكن بالمقابل ينبغي تصدير أعمال مغربية وترجمتها باللغة المحلية لكل بلد ، من أجل التعريف بالمغرب كبلد والتعريف بالممثلين المغاربة، فليس من الصواب أن نقوم باستقبال فنانين أجانب للتعريف بهم كـ»غوادالوبي»، التي قمنا باستقبالها بحفاوة بالغة، على الرغم من أنها كانت  شخصية مغمورة في بلدها، وهذا كله على حساب إهمال الفنان المغربي.

كثيرا ما يكون هناك استغلال للمبدع المغربي، ونصطدم بواقع رواتب هزيلة لا تواكب المجهود الذي يقوم به.

كفانا استغلالا للفنانين والمواهب المغربية.

محمد عبد الوهاب العلالي*:  اللجوء إلى الدبلجة خطوة متقدمة للتصالح مع المتلقي وتحقيق إعلام القرب

– كيف تقيمون ظاهرة انتشار المسلسلات المدبلجة في قنواتنا، لاسيما التركية منها؟

 انتشار المسلسلات التركية يعكس ظاهرة ذات أوجه مختلفة، فهي ظاهرة إعلامية لأنها تشكل نجاحا باهرا للعديد من الإنتاجات التركية التي غزت المحطات التلفزيونية العالمية العريقة ونافستها، وبذلك عبرت عن مستوى راق للمنظومة السمعية البصرية التركية وخاصة الإنتاجات الدرامية منها، وهي ظاهرة اقتصادية تعبر عن نموذج للصناعات الإبداعية أو ما يطلق عليه الصناعات الخلاقة الناجحة التي تجعل من المنتجات الثقافية والفنية والرموز والعلامات والقيم، مجالا للربح والمردودية ومناصب الشغل والتسويق السياسي والثقافي والسياحي والحضاري لهوية خاصة مميزة. والدليل على ذلك أن اقتصاديات العديد من القنوات التلفزيونية،  ومنها المغربية ـ تقوم على مبدأ اقتناء مسلسلات تركية ودبلجتها، لأن ذلك أقل كلفة وأهم مردودية وأكثر جلبا للمشاهدين والإشهار. وهي أيضا ظاهرة حضارية تعبر عن قوة الحضارة التركية ومدى قدرتها على التفاعل مع عالم اليوم عبر الإنتاج الفني السمعي البصري.

– أليست الدبلجة إلى الدارجة المغربية  فورة إعلامية واكبها الكثير من الجدل، خصوصا فيما يهم اللغة العربية؟

 لا بد من تدقيق بعض الأمور، يعتبر اللجوء إلى «الدبلجة الكاملة» أو «الدبلجة الجزئية» وحتى «العنونة» خطوة متقدمة للتصالح مع المتلقي وتحقيق إعلام القرب. لا يجب أن ننسى أنه حتى وقت قريب كانت نسبة هامة من محتويات البرمجة التلفزيونية تقدم بالفرنسية أساسا، حتى بين فئة من الجمهور تتكلم فقط الأمازيغية وفي أحسن الأحوال الدارجة  في المناطق القروية. لكن هل يقوم هذا التعامل الجديد الذي يلبي مقتضيات دستورية وبنودا في دفاتر التحملات على أسس مهنية وأكاديمية؟ الجواب على ذلك يحتاج إلى تدخل جدي وعلمي من لدن مراكز الدراسات اللغوية وشعب اللغات ومدرسة الترجمة لتقول كلمتها في الموضوع، فالانطباعات الجزئية وبعض أحكام القيمة وحدها لا تكفي.

 لكن من جهة أخرى، لا بد من التأكيد أن لدينا دارجة مغربية راقية كما تؤكد التجربة السينمائية المغربية وبعض التجارب التلفزيونية، وأيضا «الربرتوار الغنائي المغربي»، والتي يمكن أن تشكل بديلا للدارجة المبتذلة التي نلاحظها في بعض الدبلجات السريعة وغير المهنية التي تعرض بها العديد من هذه المسلسلات والمنتجات السمعية البصرية. لكن بلوغ ذلك يحتاج إلى إرادة قوية لتأهيل لغوي شامل وهذا يحتاج إلى هياكل قوية من بنيات تحتية وموارد بشرية أكاديمية متخصصة في جوانب لسانية دقيقة تعمل داخل المحطات الإذاعية والتلفزيونية.

أما عن علاقة كل هذا باللغة العربية، فالأمر فيه نظر. فعرض المسلسلات الأجنبية بالدارجة المغربية وليس باللغات الأجنبية، يبقي الأمر في صالح اللغة العربية كمكون من مكونات البنية اللغوية الوطنية الداخلية. أما عن مكانة اللغة العربية في الإعلام السمعي البصري فالنموذج الساطع هو الدراما السورية، التي يشكل البناء اللغوي فيها جزءا من البناء الفني الشمولي للغة- الصورة التلفزيونية ويشكل نموذجا يمكن الاحتذاء به.

من جهة أخرى، يبقى الإشكال المطروح هو أي مستوى من الدارجة مرغوب أكثر. فنحن نتكلم «دوارج» تتسم بالكثير من المتعة والجمالية والقدرة التعبيرية الرائعة، فلماذا لا تستثمر على نحو جيد في مختلف المنتجات السمعية البصرية؟ ربما لأن الرغبة في الربح السريع لدى بعض المؤسسات العاملة في المجال وغياب مؤسسات تتعامل مع كفاءات أكاديمية متخصصة في الميدان اللغوي يوضحان بعض وجوه هذه المعضلة.

ثم إن الموضوع ليس محصورا في دبلجة المسلسلات الأجنبية إلى الدارجة والعربية، بل يشمل أيضا الدبلجة إلى الأمازيغية باعتبارها مكونا من مكونات المجال السمعي البصري المغربي. كما أنه موضوع يتطلب النظر إليه من اتجاهين، أي إمكان الدبلجة من الأمازيغية إلى العربية والدارجة وربما اللغات الأجنبية، ونفس الشيء من الدارجة والعربية، أي أن الأمر يتعلق بحوار متعدد الأبعاد، منها المحلي والجهوي والوطني والكوني. والحقيقة الساطعة لدينا أن هناك إشكالات لغوية في حقلنا السمعي البصري لم ينظر إليها بعد بالجدية اللازمة.

– ما هو في نظركم البديل للانعتاق من ربقة المسلسلات الناطقة بالعامية المغربية ؟

 لا ينحصر المشكل اللغوي في المجال السمعي البصري في الدبلجة إلى الدارجة المغربية وحسب، فهو يتجاوز ذلك بكثير. والسبيل الوحيد للانعتاق من هذا الوضع يرتبط بمدى توفر رؤية شمولية لتطوير إنتاج وطني له القدرة على منافسة المنتجات الأجنبية، وفي هذه الحالة قد نفكر في دبلجة الأعمال المغربية من لغاتنا الوطنية إلى بقية اللغات الأجنبية، حيث تتوفر الأسواق لترويج منتجاتنا السمعية البصرية. وهذا المستوى لا يمكن أن نلجه سوى بمدى مقدرتنا على الولوج بنجاح لمنظومة الصناعات الإبداعية الخلاقة، بما يتطلبه ذلك من تغيير العديد من البنى والهياكل القائمة.

من زاوية أخرى، يطرح المشكل اللغوي ليس فقط في المسلسلات التركية أو غيرها، فهو يطال الآداء اللغوي لمختلف أصناف البرامج الفنية والإخبارية، مما يجعلنا نتساءل: هل نحتاج إلى شرطة أو درك لغوي يرصد ويقوم كل الانزياحات في المجال اللغوي كما هو الأمر لدى جيراننا حيث الآداء اللغوي الصحيح لوسائل الإعلام، وخاصة بهيئات الإذاعة والتلفزيون من المعايير التي لا يتم التساهل معها؟.

* باحث وخبير في المجال السمعي البصري

مشاركة