الرئيسية اراء ومواقف زمــن «الفيــاغرا»

زمــن «الفيــاغرا»

كتبه كتب في 18 يوليو 2014 - 16:29

كم هو ممتع، أن نتفيأ ظلال ذاكرتنا، حتى نعيد الماء والرونق لزمن عقيم، طافح بكل معاني اليباب، وحتى نخفف على أنفسنا من غلواء هذا الزمن المادي، الذي أطلقت عليه الكثير من الأوصاف: زمن حداثي، حضاري، معولم…

 لكن في ظل هذه الترسانة من التسميات التي تبعث على الأمل والتفاؤل، أقصي وألغي «الإنسان الأعلى»، أو «الإنسان السيد» حسب نيتشه، حيث غدا هذا «المسود» للأسف مجرد رقم في سوق البورصة، وفي ساحات الاقتتال والتفجيرات اليومية، غدا صوتا مطلوبا، يُشترى في الأسواق الانتخابية، ورسالة صوتية مربحة لجهات معينة في مسابقات وبرامج استعراضية موسيقية لا قيمة لها…، كما غدا شعارا يرفع في المسيرات الاحتجاجية أو النضالية، بل مجرد كائن استهلاكي، ومتلق مُدجن، يفتقد لكل حس نقدي في سوق الماركات العالمية، وفي الإمبراطوريات الإعلامية الباذخة.

 إن ما نعيشه اليوم هو زمن الغيلة والوحوش الضارية، لكنها ليست «الوحوش الشقراء المفترسة» لنيتشه، أي أولئك السادة الأوائل الذين بنوا الحضارة بالقوة والبطش من أجل الارتقاء والتغيير، بل وحوش ضعيفة تافهة، تلهث وراء «الفياغرا»، كي تستعيد قواها التي خارت وهيبتها وفحولتها التي اضمحلت.

 في الإعلام، في السياسة، في الفن، في الإنترنت، في الأدب، ثمة وحوش خفية بلهاء، تدعي العظمة والقوة، الهمّ الوحيد الذي يؤرقها، هو كيف تسوقنا مدجنين إلى زمن التفاهة واليباب الروحي والفكري، وتقذف بنا كالجرذان المقرفة إلى عمق البقع السوداء، كما يقول كافكا.

 إننا نعيش فعلا زمن التفاهة، فالمسلسلات التركية والمكسيكية التي تقدم للشباب العربي في طبق عربي، بشكل يوهمه بانعدام الحدود بين الثقافتين العربية والمكسيكية، بل بلا جدواها، هي مسلسلات جرفت المشاهد العربي إلى دوامة الابتذال والتردي، ومسابقات الغناء التي تطل علينا بين الفينة والأخرى في الإعلام العربي بوجه يخلو من حمرة الخجل، اللهم إسفافا واستهتارا بالذوق العام، غدت الشغل الشاغل للشباب العربي المعبأ للتصويت ودعم «قضيته الأولى»، واختيار مطربه المفضل، أو مطربته المفضلة، برسائل صوتية إثراء لجهات معينة، عوض أن يعبأ للنضال والتفكير في أزماته ومشاكله الداخلية والخارجية. والمطلوب من الجماهير أن تعبأ هي أيضا لاستقبال هذا المطرب أو المطربة بالهتافات والزغاريد.

 والإنترنت بدوره لا يخلو من سفاسف الأمور. والأمر المثير للضحك والشفقة هم هؤلاء الشباب الذين يقضمون التفاهة كسندوشات ولا يشبعون، فلم يعد يكفيهم ما يستهلكون يوميا من هامبورغر ورقائق الشيبس ومصبرات و..، بل إن بعض المواقع أصبحت ضاجة بأسماء بعض «الشعراء والكتاب الشباب»، ممن لم يتمكنوا من ولوج أبواب النشر في المنابر الإعلامية المكتوبة، فوجدوا في النشر الإلكتروني فرصة للشهرة التي طالما حلموا بها، وتوهموا أنهم من الممكن أن يحدثوا «رجة» في الشعر العربي الحديث، فكان الفضاء الإلكتروني فضاء مواتيا لنفث سموم حقدهم وكراهيتهم، فتحول هذا، بقدرة قادر، إلى آمدي وآخر إلى ابن قتيبة وغيرهما إلى جرجاني.. ليعلنوا عن أشعر الشعراء والشاعرات، ومن يستحق لقب شاعر وشاعرة. بل أحيانا قد تتحول المنابر الإلكترونية والمكتوبة إلى ساحات للاقتتال وتصويب كل سهام التجريح والقدح والتشفي بشكل مقزز، وبشكل ينمي في دواخلنا الحنين إلى زمن السجالات الفكرية والثقافية البناءة والمثمرة التي مضت بلا رجعة.

 وقد نلجأ إلى الفن والموسيقى، كي نزيد جرعة من الحياة في عروقنا، ونلغي المسافة بيننا وبين الطبيعة، كما يقول نيتشه، فتطل علينا قنوات موسيقية عربية، بل وقنواتنا الوطنية، تروج لكائنات مفبركة بأغان تحمل كل معاني الإسفاف والتلميحات الجنسية والسطحية، تخلو من كل إبداع أو جمالية، تشوش على كل لحظات استمتاع بخلوتنا التي نقبض عليها، وبصعوبة، من فم الوحش الاستهلاكي المادي.

 ولا أظن أن المرأة في هذا الزمن، زمن اندحار القيم وعدم احترام لإنسانيتها وكرامتها، ستساهم في ولادة «السوبرمان» كما يقول نيتشه، بل ستساهم في ولادة كائنات مشوهة ممسوخة، تفتقد لإنسانيتها وفردانيتها؛ كائنات ستضيع أناها في ظل هذا التلوث والفوضى الفكرية والإعلامية.

 وفي الأخير، نشتكي ونبكي ونعلن أن هناك مؤامرة تُحاك ضدنا، ومخططا صهيونيا أمريكيا يُصوب نحونا نحن العرب، ونعلق تفاهتنا على شجرة العولمة التي عولمت كل شيء حتى التردي، بل نحن، بضعفنا وعجزنا وتردي أذواقنا، من نلهث وراء هذا الوجه البشع للعولمة، ولا نسعى إلى الرقي بأذواقنا، والغوص في ذاكرتنا وفي الأصيل والعميق فينا، ولا نجاهد للتمسك بهويتنا، ولو تريثنا قليلا، لاكتشفنا وجه العولمة المشرق الذي اكتشفه الآخر بسهولة، والذي غيّبناه نحن بجهلنا واستهتارنا.

اكرام عبدي

 

مشاركة