الرئيسية اراء ومواقف درجنة وتعريب التعليم الوطني: أحلام طوباوية بنكهة إيديولوجية

درجنة وتعريب التعليم الوطني: أحلام طوباوية بنكهة إيديولوجية

كتبه كتب في 23 نوفمبر 2013 - 21:24

فتح التقرير الذي رفعه السيد عيوش إلى الملك بخصوص الإصلاحات المقترحة للنهوض بالنظام التعليمي بالمغرب الباب على سجال له طعم عتيق على ساحة النقاش العمومي الوطني. حيث اهتزت القوى المحافظة مرة أخرى على وقع الكلام الذي سيق حول اللغة العربية ومكانتها في النسيج التربوي وبالتالي وظيفتها على مستوى التكوين والهوية والعقيدة.. وهو النقاش الذي ميز في الحقيقة مجموعة من المحطات السياسية والثقافية بالبلاد منذ زمن بعيد.. ويحيلنا ذات النقاش حول وظيفة اللغة العربية وعلاقتها بالدارجة المغربية على وجهات نظر غارقة في التوظيف الإيديولوجي و السياسي للمكونات الثقافية والهوياتية للبلاد، والتي يعتبر الحقل التربوي والتعليمي حلبة محورية للنزال حولها وتجريبها والسعي إلى تكريسها والإستفادة من عوائدها إن على المستوى المادي وكذلك المعنوي..

وما أثارني في هذا النقاش حول توظيف الدارجة المغربية في النظام التعليمي هو بعض المسوغات التي نافح بواسطتها المعسكر اللغوي التعريبي عن ذات اللغة لمواجهة الداعين إلى الدرجنة بدل التعريب الشامل والمطلق للمنظومة التعليمية والشأن العمومي على وجه أعم. ومنها مثلا:

– الداعون إلى الدرجنة أعداء للغة العربية. وينم خوض النقاش بهذا الأسلوب عن أمور منها:

اِستمرار تفشي التفكير في إطار نظرية المؤامرة والتآمر في الأوساط السياسية والثقافية بالبلاد..حيث يعتقد الكثير من المثقفين والسياسيين بأن اللغة العربية، أو غيرها، مهددة دوما من طرف القوى المناهضة التي تكن لها عداء أزليا لا ينتهي ولن ينتهي إلى أن يقوضوا الدعائم القوية والمتينة للأمة العربية والإسلامية.. وهم بذلك يعملون بغير كلل في الخفاء للنيل منهم واستعبادهم وطمس معالم هويتهم ودينهم الذي هو مصدر قوتهم..ولن يهنأ لهم بال إلى حين استئصاله وإقباره إلى الأبد.. والأدهى من ذلك أن نظرية المؤامرة تلك ظلت لصيقة بالمشهد السياسي والثقافي بالبلاد منذ عقود كثيرة.. وكانت جوابا جاهزا باستمرار للنيل من المثقفين الذين يحاولون التجديد أو تبني مقاربات سياسية وثقافية غير التي يبشر بها النظام القائم والثقافة السائدة في المجتمع عن طريق قنوات التواصل الرسمية التي علبت الكثير من القيم في أفكار مسكوكة آمنت بها الحركة الوطنية وزرعتها في المدرسة والإعلام والفكر والأدب..حتى اعتبرت من ثوابت الأمة التي لا ينبغي مناقشتها أو محاولة تجديدها أو نقدها..ومنها قدسية اللغة العربية وتعاليها الروحي والديني والدنيوي، واعتبارها اللغة التي توحد الشعب المسلم وتمثل صلب مركزيته الثقافية والسياسية والهوياتية..

التفكير وفق ثنائية التناقض المتمثلة في اللغة العالمة واللغة العامية. ففي الوقت الذي يمكن فيه للغة العالمة من تبوؤ مكانة مرموقة ضمن المشهد اللغوي العام ومنحها جميع الإمتيازات المادية والمعنوية الكفيلة بتطويرها وجعلها لغة مرموقة ومؤسساتية، ولغة ثقافة وعلم وأدب… في المقابل، تجعل اللغة العامية لغة للتخاطب العامي السوقي الذي لا يرقى إلى مستوى الثقافة والعلم والأدب..ولا يمكنها ذلك من الإستفادة من الإمكانيات الهامة المرصودة للغة العالمة.. والتفكير وفق هذه المقاربة هو الذي كان وراء تبخيس دعوة عيوش إلى الدرجنة..لأن المادفعين عن اللغة العربية، على شاكلة رواد الحركة الوطنية، يعتبرونها لغة عالمة في مقابل الدارجة التي يعتبرونها لغة عامية سوقية..

-الداعون إلى الدرجنة يعادون الإسلام:

1- لقد تم توظيف الدين بصورة كبيرة في هذه المعركة اللغوية والقيمية بشكل غير مقبول من طرف المنافحين عن اللغة العربية.. حيث تم السعي إلى رمي دعاة الدرجنة بورقة العداء للديانة الإسلامية؛ إذ أن مناقشة دور اللغة العربية في تردي المنظومة التربوية قد كان كافيا لإثارة موضوع الإسلام كدين عربي..ووفقا لذاك، تم اعتبار اللغة العربية ركنا من أركان الإسلام، أو الإسلام كله..كما كان واضحا من خلال الكثير من المقالات في هذا الموضوع، إذ لم يكف التعريبيون من إشهار ورقة الدين في وجع دعاة الدرجنة.. وهو المنهج القديم الجديد كلما تعلق الأمر بمناقشة دعاة التعريب، تماما كما وقع في سجالاتهم مع الحركة الأمازيغية بخصوص الحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية ضمن سياق الدولة المدنية العصرية..

وسأعرج هنا لبيان أصل هذا المنهج الذي يجعل من اللغة العربية أصلا من أصول الإسلام..إنطلاقا من كتاب يحمل عنوان “العتاب لمن تكلم بغير لغة الكتاب” لمؤلفه: تركي بن مبارك بن عبد الله البنعلي الذي أمعن فيه بكثير من التفصيل في شرح وتحليل عدم جواز مس اللغة العربية إنطلاقا من القرآن والسنة والأثر.. إذ يقول:

 “وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر إجماع أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جنس العجم , عبرانيهم وسريانيهم وروميهم وفرسيهم… والعرب هم أفهم من غيرهم, وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة. ولسانهم أتمّ الألسنة بياناً وتمييزاً للمعاني, جمعاً وفرقاً, يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل, إذا شاء المتكلم الجمع, ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر..إلخ [ الاقتضاء ص141 ]”

وفي موضع آخر يقول:

“ويرى ابن فارس أن اللغة العربية أفضل اللغات وأوسعها, إذ يكفي ذلك دليلاً أن رب العالمين اختاراها لأشرف رسله وخاتم رسالاته, فأنزل بها كتابه المبين. ولذلك لا يقدر أحدٌ من التراجم أن ينقل القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى, كما نُقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية, وتُرجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله بالعربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن العجم لم تتسع في المجاز اتّساع العرب. [الصاحبي لابن فارس ص13]

وسعى ذات الكاتب إلى بيان النهي عن التحدث بلغات الأعاجم، كذا.. واعتبرها مجرد رطانة مؤكدا على ذلك بقوة الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة

“روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: رواه السلفي بإسناد معروف .. وهذا يشبه كلام عمر بن الخطاب, وأما رفعه فموضع تبين. اهـ [الاقتضاء ص177]”

“وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لا تعلموا رطانة الأعاجم”. اهـ [ أخرجه البيهقي, وقال شيخ الإسلام: بإسناد صحيح. انظر الاقتضاء ص172]”

“وعن عطاء بن يسار قال: “قال عمر: إياكم ورطانة الأعاجم”. اهـ [انظر الاقتضاء ص172]”

“وعن عطاء أيضاً قال : “لا تعلموا رطانة الأعاجم”.اهـ [ أخرجه ابن أبي شيبة ]”

” ومعلوم أن “تعلم العربية , وتعليم العربية” فرض على الكفاية؛ وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن. فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي, ونصلح الألسن المائلة عنه, فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة, والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصاً وعيباً , فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة, والأوزان القويمة: فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان, الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان, الذي لا يهذي به إلا قوم من الأعاجم الطماطم الصميان؟!!”

ومما ورد في هذا الكتاب، وهو كثير ومتنوع، عن ربط بين الإسلام كديانة واللغة العربية كجزء لا يتجزأ منها، يتبين لنا بوضوح مدى تأثير الأصوليين والسلفيين في منظومة الفكر المغربي المعاصر في شقه الإسلامي السلفي  اليميني الأصولي أو الذين يجعلون من أنفسهم حمائم سلام في خندق الإعتدال والوسطية  بمنظومة فكرية غارقة في القدم ولا تمت لأي صلة بواقع وسياق الدولة المدنية العصرية..وقد كانت مناسبة الدعوة إلى الدرجنة، والدفاع عن اللغة الأمازيغية دوما، مناسبات متجددة لكي تطفو هذه الأفكار الأصولية الغريبة على سطح النقاش العمومي رغم أن متطلبات الدولة المدنية الديموقراطية لا يمكن أن تسير وفق هذا المنطق الغريب في التعامل مع مكونات المشهد اللغوي والثقافي..

السكيزوفرينيا ميزة المشهد الثقافي الوطني بامتياز:

لقد امتلأت أجواء النقاش حول لغة التدريس ومشاكلها بالبلاد برائحة سكيزوفرينا مزمنة لا مثيل لها.. إذ لا يعقل أبدا أن يتم الدفاع عن اللغة العربية بهذا الشكل العتيق باعتبار نقد وظيفتها ودورها  على المستوى التربوي مسا بالدين الإسلامي.. في حين أن الجميع، ومنهم عتاة التعريبيين، يعلم بأن اللغة الفرنسية بالمغرب هي التي تتربع على عرش اللغات بالبلاد، وهي التي يريد الجميع أن تكون أسلس اللغات على ألسنة الأبناء..وهي لغة الترقي الإجتماعي والثقافي والسياسي.. ولا أدل على ذلك، النجاح الكبير الذي تحققه المدارس الخصوصية ذات الخبرة في تلقين جيد للغة الفرنسية وتدريس مختلف المواد بها..في حين أن تلاميذ الشعب الذين يتابعون دراساتهم الفقيرة في المدارس العمومية التي تتحكم فيها المشارب السياسية التعريبية والذين عُربوا بشكل تام، يجدون أنفسهم في مراتب متدنية بالمقارنة مع أقرانهم في المدارس المفرنسة والذين يتحدثون الفرنسية بطلاقة متناهية..ومنهم فلذات أكباد عتاة دعاة التعريب والأصوليين الإسلاميين.. ومن هذا المنطلق لابد من الإستفهام حول ماهية نهج التظلم والبكاء في الدفاع عن اللغة العربية وهي اللغة التي تستفيد أكثر من غيرها  من الملايير منذ أكثر من ستة عقود من الزمن.. وهي اللغة التي تستفيد أيضا من حظوة دينية لا ينازعها فيها أي مكون لساني آخر..وهي قيمة اعتبارية كبيرة.. علاوة على فرضها بقوة في التعليم والقضاء والإعلام والفضاء العمومي لعقود كثيرة..

وقد اتضح من خلال النقاش الدائر مدى التغاضي الكبير عن واقع اللغات بالفضاء التربوي بالبلاد من طرف كافة الأطراف والجبهات المتناظرة..فالسيد عيوش الذي قدم المذكرة إياها داعيا من خلالها إلى درجنة التعليم.. والأصوليون الإسلاميون والقوميون التعريبيون الذين نافحوا عن اللغة العربية.. تغاضوا بشكل مريب عن واقع اللغات الحقيقي بالمدرسة العمومية، لأن الدراجة أصلا هي اللغة التي يتم تداولها بقوة في الأقسام الدراسية..وقلة قليلة من الأساتذة يستطيع أن يقدم درسا كاملا باللغة العربية الفصحى..في كافة المستويات.. إذن فاللغة الدارجة هي في الحقيقة لغة التدريس الأولى في المنظومة التربوية العمومية بالبلاد.. ومن ينكر هذا فهو يبني لنفسه قصرا من الأحلام أو عالما طوباويا يعيش فيه بمفرده…

مشاركة