الرئيسية ثقافة وفن قراءة في “دروز بلغراد” الرواية الفائزة بالبوكر

قراءة في “دروز بلغراد” الرواية الفائزة بالبوكر

كتبه كتب في 13 أكتوبر 2013 - 14:33

منذ الإعلان عن جائزة البوكر سنة 2007 والمهتمين بالرواية من العرب يشرئبون بأعناقهم ويتطلعون  بعيونهم لمعرفة اسم الرواية الفائزة ، وبعد  اللغة الشعرية التي وظفت في رواية القوس والفراشة لمحمد الأشعري ، وانسيابية اللغة في رواية عزازيل ليوسف زيدان   كادت تترسخ  لدي قناعة  اعتبار اللغة أهم معيار في اختيار الرواية الفائزة بأكبر جائزة في الرواية العربية حتى طالعت ( دروز بلغراد :حكاية حنا يعقوب ) لربيع جابر .

حاول الكاتب نسج  أحداث رواية على شاكلة أحداث “عزازيل ” بالانطلاق من أحداث  تاريخية لكن شتان بين لغة الروايتين .

على نفس الخطى انفتحت رواية (دروز بلغراد  ..)   على التاريخ  والاستفادة من حادثة نفي 550 درزيا من جبل لبنان سنة 1860 بعد  تعديهم على المسيحيين واستيلائهم على الجبل فما كان من الإدارة العثمانية إلا نفيهم عقابا لهم، وتتخذ الرواية من شخصية حنا يعقوب المسيحي بائع البيض بطلا لأحداثها بعدما   اختار له السارد أن يكون في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ ، ويطوح به في دهاليز السجون ، وأقبية المنافي  ، بعد أن زج به الجنود ضمن المنفيين بديلا لسليمان غيفار عز الدين الذي أخلي سبيله إثر دفع والده رشوة للمسؤول عن الترحيل ، ليجد ذاته مكبلا بين محابيس معاقبين على قتلهم أبناء ديانته ، وتسافر الرواية بالقارئ عبر سجون البلقان ( الصرب ، الجبل الأسود ، كوسوفو ، الهرسك  بلغاريا …) ومعاناة المحابيس وعجز البطل عن الإفصاح عن هويته طيلة 12 سنة عانى فيها مثل باقي السجناء التعذيب ، الجوع  ، البرد، الإهانة ، الأعمال الشاقة ، قساوة المناخ  … مما جعلهم يتساقطون تباعا أمام عينيه ، ليفتح  له السارد في الفصول الأخيرة منفذا و يخلصه من عذابه بأن تمكن من الهرب في محاولة ثانية غداة احتراق المكان الذي كان يأوي المحابيس وعبّد  له الطريق للالتحاق بقافلة للحجاج  أوصلته إلى دمشق في طريقها نحو مكة ، و يتمكن في النهاية من العودة إلى زوجته هيلانة وابنته بربارة ببيروت …

بعد القراءة  يمكننا تقديم مجموعة من الملاحظات على هذه الرواية التي توجتها لجنة البوكر الجائزة العالمية للرواية العربية بجائزة سنة 2012وفي ذلك استحقاق لشاب بالكاد  يكمل عقده الرابع ،  فرض نفسه بقوة على قارئ الرواية العربية بإصداره  في حوالي عشر سنوات سبع عشرة رواية ، واقتحامه عوالم السرد يافعا بنشره لأول رواية وهو في عقده الثاني ، وهذا ما لم يتح لمعظم روائيينا العرب ، لذلك إذا كان التتويج  اعترافا بعطائه الوفير فنعم الاختيار ، أما إذا كان اعترافا برواية ( دروز بلغراد..) فالمسألة فيها نظر ، صحيح إن الرواية طرقت موضوعا جديدا غير متداول في الرواية العربية واختارت لنفسها قالبا سرديا خاصا ، لكن طريقة المعالجة واللغة الموظفة تجعلانها لا ترقى إلى مستوى الروايات المتوجة قبلها، اللهم إذا لم تكن المنافسة على الجائزة بين الروايات المرشحة شرسة في سنة 2012، وكانت الروايات المرشحة للجائزة أضعف   …

حاولت رواية “دروز بلغراد :حكاية حنا يعقوب” تصنيف نفسها ضمن الرواية التاريخية لذلك افتقدت للغة الشعرية ، وضعف الخيال فكانت لغتها في معظمها مباشرة تقريرية ، بجمل قصيرة يغلب عليها سرد  الأحداث مع عدم الاحتفال بالوصف ، فقارئ الرواية يتابع صفحاتها ال (222) دون أن يتمكن من رسم ملامح البطل وملابسه بل يجد نفسه عاجزا عن تحديد سنه ، وبقدر ما أغرق السارد في الحديث عن الأحداث التي عاشها البطل في البلقان فإنه لم يقدم للمتلقي صورة مفصلة عن الأمكنة والفضاءات التي تمسرحت فيها أحداث الرواية ، ذلك أنه خصص عدة فصول للبرج وقلعة بلغراد وحبس الهرسك … دون أن يوظف الوصف بما فيه كفاية لتحديد أبعاد الأمكنة ومواصفاتها فقد  اختار السارد مثلا أربعة مشاهد عنوانها بقلعة بلغراد (1.2.3.4) ولم يكلف نفسه وصف هذه القلعة  لا من الداخل ولا من الخارج ، فلا هو حدد مكونات بنائها ولا عدد غرفها ، ولا طولها أو علوها … وظل مركزا على معاناة البطل مع ما للوصف واللغة الشعرية من أهمية في العمل الروائي..

يقتحم المتلقي عوالم رواية ” دروز بلغراد ” التاريخية وهو ينتظر – على الأقل كما يوحي عنوانها – التعرف على هذه الطائفة ، معتقداتها أصولها .. من خلال تقديمه لشخصيات روايته . 550 درزيا تفاعلوا في الرواية ، ولا شخصية سمح لها السارد بالحديث عما يميزها عن غيرها من الطوائف ، ولا عن سبب صراع هذه الطائفة مع المسيحيين ، لدرجة لم يتمكن السارد من تصوير الاختلاف بين المسحيين والدروز فبدا حنا يعقوب في الرواية مثله مثل عائلة غيفار الدرزية ، فطيلة 12 سنة عاشها حنا مع 549 درزيا لم يشر السارد إلى أي اختلاف في العقائد والشعائر والممارسات الدينية والمذهبية ، كما لم يستغل الآذان وقرع أجراس الكنائس الذي ذكر مرارا في الرواية لإبراز بعض مظاهر الاختلاف ، وهذا ما غيب الصراع في الرواية ، فجاءت سردا لأحداث – وإن كانت فيها معاناة – لا صراع فيها ، في خط سردي تصاعدي اللهم بعض الفلاش باك  وتذكر البطل لوالده وأيامه الخوالي..

ذيلت الرواية بلائحة للمراجع ، وهذا يغذي لدى القارئ  فكرة ضيق الأفق الإبداعي للكاتب المقتنع أن الرواية عمل إبداعي تخيلي  لا يتم في تأليفه الرجوع إلى مصادر ، فقد كانت أحداث ( عزازيل ) أبعد في التاريخ لكن كاتبها اختار لها طريقة  سردية أبعدتها عن الحرفية التاريخية ،رغم افتتاحها بالحديث عن ترجمة لفائف تعود للقرن الخامس عثر عليها مكتوبة باللغة السريانية وكون الرواية مجرد ترجمة لتلك اللفائف … واختتامها بصور توهم القارئ بأن الأحداث واقعية  فإن ذلك لم يزدها إلا توغلا في الإبداع والتخيل خاصة مع تلك الانسيابية اللغوية التي تأسر القارئ ، وهو ما تفتقر إليه رواية (دروز بلغراد ) لربيع جابر .. ما أن قرأت الصفحات الأولى من الرواية حتى تواترت على الذاكرة نصوص روائية غائبة تتناص مع بداية رواية ربيع جابر وخاصة بداية رواية شرق المتوسط  لعبد الرحمان منيف لانطلاقهما معا من  التركيز على وصف الاهتزاز والأصوات واعتبار الميناء نقطة تفجير الأحداث وتصوير تعذيب السجناء معاناة المحابيس كما يسميهم ربيع جابر، لكن غياب العناوين وحسن توظيف الحوار واللغة  في شرق المتوسط  جعلها متفوقة وإن جمعها نفس الموضوع ….

وينضاف  إلى هيمنة السرد على الرواية ، وقصر جملها كثرةُ عناوينها ، فالرواية الممتدة على مسافة ورقية تناهز 222 صفحة من الحجم المتوسط تضمن حوالي مائة عنوان فرعي ، بمعدل عنوان لكل ورقة (صفحتين ) ، وهي عناوين شكلت تكسيرا لخطية السرد ، وأحيانا كثيرة لم يكن إليها داع خاصة عندما تتابع ثلاث أو أربع عناوين بنفس التسمية مع اختلاف في الترقيم كما حدث مع عنوان ( عالم الحدود الذي تكرر خمس مرات وعناوين مثل  (البرج – حيطان جودت باشا – قلعة بلغراد،  قلعة الجبل الأسود…) التي تكرر أربع مرات دون أن تكون لهذا التكرار أية قيمة مضافة للرواية ، وفي غالب الأحيان كانت العناوين خادعة ومخيبة لأفق انتظار القارئ فعندما يقرأ المرء عنوانا مثل ( الهواء الأصفر ) الذي قصد  به السارد الكوليرا كان القارئ ينتظر تصويرا دقيقا لتأثير هذا الداء على المدينة ، داخل السجن وكان يفترض أن تكون الكوليرا إضافة نوعية يمكن استغلالها سرديا لوصف ما عاناه الدروز في معتقلاتهم، لكن السارد اكتفي في العنوان الأول بالإشارة إلى خروج المحابيس وشرائهم سكرا ووصف ما شاهدوه وشعورهم بالسعادة بالسير بلا هدف وتفرجهم على زحمة السوق مع إشارات قليلة في العنوان الثاني إلى هذا الوباء ، والتأكيد في العنوان الثالث على أن الكوليرا لم تدخل بيتهم رغم دفنهم لموتاهم عدا ذلك كانت فصول الهواء الأصفر الفصول التي تحرر فيه السجناء نسبيا فخرجوا للأسواق ، وحرثوا وحصدوا .. وكأن هناك دواع تحتم على الكاتب الالتزام بحرفية الحدث التاريخي وتمنعه من إطلاق العنان للمخيال ، وباستثناء  العناوين التي ذكرت فيها زوجة البطل هيلانة  وهي ستة عناوين ،والتي كانت تحيل على تغير مكان الأحداث ، لم تكن باقي العناوين إلا عامل إضعاف للرواية …

وإذا أضيف إلى كثرة العناوين   تعدد الأمكنة  سيعرف القارئ سبب تركيزنا على إتلاف هذا التعدد للخيط الرابط بين للأحداث ، رغم محاولة الكاتب التخفيف من ذلك باختيار خط سردي تصاعدي  الأحداث في رحلة متسلسة دون حوافز سردية : انطلقت من بيروت نحو قلعة بلغراد ،وضفاف نهر الدانوب مرورا بالهرسك والجبل الأسود ،فكوسوفو ،وبلغاريا وبريتشيتا وقطع البوسفور إلى تركيا الآسيوية ومن إستانبول إلى دمشق فانتهاء بالعودة إلى بيروت في مسار دائري عاد فيه البطل إلى نقطة البداية التي انطلق منها حيث حضن زوجته هيلانة وابنته بربارة في رحلة دامت 12 سنة

هذه الإثنى عشرة سنة التي جمعت المسيحي بالدروز ، تمكن روائيا  من فعل ما عجزت أيام الحرية عن فعله ، إذ رغم العداوة جعل السارد الإخوة الدروز يولون عدوهم (حنا)  المسيحي عناية ويعتبرونه واحدا منهم ، وتكون المعاناة والتعذيب عامل وحدة أسفر عن تذويب الحزازات الدينية والعرقية وجعل الأعداء إخوة ، وفي ذلك رسالة  للبنانيين ودعوة إلى تجاوز خلافاتهم الطائفية ، وكأن السارد يتغيى تمرير أن لبنان ليس في حاجة إلى أن تعيش مثل ظروف الرواية اللا إنسانية في السجون والأمراض المعدية والبرد الشديد، والتعرض للقصف العشوائي أثناء المعارك، وموت أبنائها – كما مات أبطال الرواية- وتناقصهم  أثناء تنقلهم على يد قطّاع الطرق وفي الأعمال الشاقة .. حتى تنسى خلافاتها  وهذا يحسب للرواية ، إذ استطاعت أن تجعل من مادة تاريخية وسيلة لمساءلة الطائفية في لبنان و تبليغ  المتحكمين في خيوطها أن هذه الطائفية ستنتهي بجعل اللبنانيين، وقد يكون ذلك ما كان وراء تتويج  الرواية بالبوكر لسنة 2012

ذ. الكبير الداديسي

مشاركة