الرئيسية مطبخ وديكور ثلاثة أيام من الكز في جبال الأطلس

ثلاثة أيام من الكز في جبال الأطلس

كتبه كتب في 29 فبراير 2012 - 22:55

 تقاسم سكان دواوير أيت مكون ومكداز وتغفيست معاناتهم مع الصميقلي والهيمري وأشياء أخرى البرد القارس والجوع والعزلة عن العالمين الخارجي، هذا ما يحاصر سكان دواوير أيت مكون بأعالي جبال الأطلس الكبير الذي يبعد عن مدينة دمنات بحوالي 80 كلوميترا، كلما حل فصل الموت (الشتاء)، كما يحلو لبعض أهل الدوار تسميته. ففيه، تنعدم الحياة بسبب الافتقار إلى أبسط ظروف العيش. العديد من السكان الذين التقتهم “الحياة”، هنا، أكدوا أنهم لم يتوصلوا ولو حتى “باش ينقيو سنانهم من المساعدات الإنسانية التي توزعها، موخرا، مؤسسة محمد الخامس للتضامن”. الإقصاء والتهميش والعزلة القاتلة هي عناوين العيش هنا. “لا شغل ولا “مشغلة” سوى بيع الجوز واللوز والتفاح على نحو تجارة موسمية في هذه المنطقة المنكوبة التي تضم أزيد من 7.000 نسمة، إلى جانب نشاط آخر “ينشط” به بعض أهل تلك المنطقة حياتهم، وهو تربية الماشية التي تتضور جوعا هي الأخرى كلما اكتست الأرض رداء الثلج. ثلج قتل المروج تحتها، وجعلها في “فريغو بارد” في انتظار أن تشفق أشعة الشمس عليها وتحررها من شبح الثلج. “الحياة” عاشت “رحلة الشتاء” بين دمنات ومكداز وتغفيست وتاسلنت، خلال ثلاثة أيام فقط، ووقفت على آدميين يصارعون البقاء بلا أذرع، وعلى حياة من زمن آخر في القرن الواحد والعشرين. وعادت بالربورطاج التالي:

في الطريق إلى آيت مكون ترونزيط الأمل

اليوم الأول. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا، عندما حلت “الحياة” على مشارف محطة سيارات ميرسديس من نوع كبير، أو ما يعرف عند أهل منطقة دمنات بـ”الترونزيطات”. اتجاه دمنات آيت مكون لا يوجد البتة. في المقابل، كانت الخطوط الأخرى التي تؤدي إلى المناطق القريبة من مدينة دمنات، من قبيل كرول واواريضن وداو تيزي واحويرن…، نشطة. استفسرنا “كورتي” المحطة عن سبب عدم وجود وسيلة نقل من شأنها إيصالنا إلى آيت مكون، فأجابنا بابتسامة عريضة ملأت وجهه الشاحب المختفي بين شاربه الكث ولحيته المجعلكة، قائلا: “هذه الأيام، المركوب اللي كيدي لآيت مكون بدأ يقل بحكم الحصار الذي يفرضه الثلج على أهل المنطقة، لكن إلى عندكم شي زهر، سوف تأتي ترونزيط من الدار البيضاء، لتقلكم إلى حيثما شئتم”. ودائما بابتسامته التي تبعث شيئا من الارتياح في النفوس، أكد لنا أن السيارة ستصل إلى مدينة دمنات بعد حوالي ساعتين.. فهي الوحيدة التي يمكنها إيصالكم إلى آيت مكون. أيقنا أن لا خيار أمامنا سوى انتظار قدوم  ترونزيط “الأمل” إلى المحطة.

منبع البرد والثلج

ونحن ننتظر مجيء  ترونزيط من البيضاء، بدأ يتقاطر بعض الركاب، كل حسب الوجهة التي يود الذهاب إليها. هناك من يقوم بشحن جوف الترونزيطات، بأكياس الدقيق، أو “النخالة” من فئة 50 كيلوغرام وبعض المواد الاستهلاكية، السكر، الشاي، وقنينات من الزيوت، تحسبا لكماشة الثلج التي تحاصرهم في بيوتهم وكذا لدرء شبح البرد القارس الذي يلفح الوجوه ويجمد الدم في الشرايين ويجعلك مثل تمثال بدون روح. بعض من الركاب أيقظوا نارا في حطب بين ثلاث أتافي وعلى مقربة من “الترونزيطات”، من أجل بعث ولو لقليل من الدفء في أجسامهم شبه الميتة، وبين الفينة والأخرى يمسحون بـأيديهم على سحناتهم التي نال منها البرد. “هنا في مدينة دمنات يوجد البرد.. لكن ليس بتلك الحدة التي يوجد عليها في أيت مكون ونواحيها.. الله يكول ليهم فالعوان، نحن هنا نعاني مع ما يصلنا من برد، أما هناك، فهو منبع البرد والثلج”. يتحدث أحدهم لصديقه الذي بدوره أكمل المشهد “السيبريري” بكلام تختلط فيه الكلمات العربية بالأمازيغية، “أكريس، واذا يتيلين كالصباح زيك ورتغيت أكيس تسودوت ولا أكيس تفغت.. المشاكل وخلاص مدن آر تمتاتن كنديند”، أي أنه في الصباح يتكون الجليد في كل أرجاء الدوار، ولا يمكن لسكانه المشي أو حتى الخروج لقضاء الحاجة في الخارج، كما أن كل سنة يحصد الثلج والجليد الأرواح من تلك المناطق.

عائلتي محاصرة

ما هي إلى دقائق حتى بدأ صاحبنا “الكورتي” يشير إلينا بيده اليسرى، مخبرا إيانا بأن الترونزيط حلت للتو للمحطة. لكن في الوقت ذاته، كشف لنا أن سائقها ربما لن يقل الركاب إلى أيت مكون مادام الثلج يرخي سدوله عليها. لكن تخمين “الكورتي” لم يكن صائبا، عندما أكد لنا “سي علي”، سائق الترونزيط، أن بعض الركاب قدموا معه من مدينة الدار البيضاء في اتجاه دمنات، ليتوجهوا بعد ذلك الذهاب إلى أيت تامليلت وأيت مكون. وأخطرنا بأنه ذاهب إلى هناك من أجل إيصال الركاب، فضلا عن الاطمئنان على أهله، كاشفا لنا أن الاتصال بينه وبينهم انقطع لما يربو على 10 أيام. “ماعرفتش آش غادي يكون دار ليهم الثلج.. فالأخبار تنقطع في مثل هاته الأيام من كل سنة.. الثلج يحاصرهم من كل مكان.. الله يستر وصافي”، يقول سي علي لـ”الحياة”.

بين الذهاب والبقاء

الوقت يمر ونحن لم نبرح مكاننا. الساعة ستعانق العاشرة صباحا بعد 5 دقائق. انتظرنا لما يزيد على ساعة ونصف الساعة. لا أحد يرغب في الذهاب إلى أيت مكون، صوت السائق “سي علي” بُح، وهو ينادي ويصرخ إلى درجة السعال. لا أحد يرد سؤاله أو يسمع نداءه. ينقص راكبين فقط على انطلاق الترونزيط في رحلتها السيزيفية. أملنا في الذهاب إلى مسعانا مرة أخرى بدأ يتبخر مع مرور كل دقيقة ونحن ننتظر الركاب. من بعيد، بدأ يشير أحدهم إلى “سي علي”. لما اقترب، قال لسائق الترونزيط وهو يلهت من شدة ركضه لكي يصل إلى أول وآخر سيارة ذاهبة إلى أيت مكون “الحمد لله الذي وجدتك.. كنت أظنك لن تأتي إلى هنا، فالثلج مازال يحاصر المنطقة… وأنا هنا منذ حوالي ثلاث أيام”. استطرد، بعد أن رمق أن الترونزيط ينقصها راكب واحد: “لا عليك.. السي حسن الفقيه ديال الدوار هو الآخر سنجده في الطريق.. لا ينقصك سوى أن تدير محرك السيارة وتنطلق على بركة الله”. سنعلم بعد ذلك أن هذا الرجل الذي عجل بانطلاق رحلتنا صاحب مأوى في دوار أيت مكون.

باراج ديال الجدارمية

قبل أن ينطلق سي علي سائق الترونزيط، استخلص من كل واحد منا 30 درهما ثمنا لتذكرة الرحلة. مسح زجاج السيارة بقطعة من ورق الجرائد مبللة بقليل من المياه. أعاد ضبط مرآة الجانب، تيقن أن الأبواب كلها موصدة. انطلق بعد أن بسمل وقرأ المعوذتين درءا للشر ومخاطر السفر. جوف الترونزيط مضغوط بالأبدان المختلفة الأحجام والأشكال، ومن رابع المستحيلات أن تبسط رجليك إلى الأمام أو الخلف، من شدة الضيق، بعد أن احتكرت السلع والمواد الغذائية والحقائب مساحة السيارة. بدأت تنبعث في أبداننا حرارة خفيفة، بسبب الأبدان المضغوطة، كيف لا والضغط والاحتكاك يولد الحرارة!

بعد أن قطعت الترونزيط حوالي ستة كيلومترات، وصلت إلى منطقة تدعى امي نفيري. هناك، توقف السائق لبرهة. تساءلنا عن سبب هذا التوقف، ليقول أحدهم: “البراج ديال الجدارمية هذا.. كل سيارة يجب أن تدفع ثمن الذهاب من أجل فسح الطريق أمامها”. وشحال كيعطيوهم؟ تستفسر “الحياة”، ليجيبنا، وعدم الرضى عن هذا الوضع مازال يكتم نفسه: “كل سائق يجب أن يدفع حوالي 10 دراهم أو 20 درهما إلى كان مشارجي مزيان فالبورت باكاج.. اللهم إن هذا منكر”، يختم امتعاضه.

الترونزيط “الخارق” بدأ يخترق طرقا جبلية مكسوة برداء الثلج الناصع. طرق ضيقة المسالك شبيهة إلى حد كبير بطريق “تيزن تيشكا” جنوب شرق مراكش، 80 كيلومترا هي المسافة التي سيقطعها السائق بركابه، على طريق لا تتوفر على حواجز تحول، لا قدر الله، دون سقوط السيارات أسفل الجبال التي يبلغ انحدارها حوالي 1800 متر، فضلا عن منعرجات خطيرة جدا مثل زوايا قائمة. والأدهى من ذلك أن أغلب هذه الطرق غير معبد، وعرضها لا يتعدى ثلاثة أمتار فقط. يصعب على أي أحد غير متمكن من السياقة أن يقود سيارته براحة تامة في هذه الطريق. أحد الركاب، المعلم الحسين، علق على تلك الطرق بنوع من السخرية، قائلا: “الله يحفظ من هاد الطريق، إلى طحنا، الأطباء ديال العلم ميجمعوناش ولو حتى فميكات”. سخرية حركت شفاه باقي الركاب، ليبتسموا جماعة، رغم أن الأمر أكبر من ذلك. فشر البلية ما يضحك. “كثرة الهم كتضحك.. وراحنا صابرين وصافي حتى يدير الله تاويل ديال الخير”، يستطرد معلم حسن.

الأستاذة عتيقة بين الوهم والحقيقة

في المقعد الأمامي للترونزيط، كانت تجلس فتاة في مقتبل عمرها. من خلال محياها الزهري وشفتيها القرمزيتين وهندامها المدني وقصة شعرها المنظم ورائحة العطر المنشود على رقبتها، يتبين أنها ليست من السكان الأصليين للمنطقة. سألتها “الحياة” عن سبب سفرها إلى أيت مكون، صمتت لبرهة، وبدأت تحدق فينا قائلة: “أنا أستاذة لمادة اللغة الفرنسية في الثانوية الأطلسية الإعدادية، بدوار أيت تامليل.. لهذا، أنا مسافرة إلى تلك المنطقة التي تكون في الشتاء مثل ألاسكا وفي الصيف مثل دول جنوب الصحراء”. قالت هذه الأستاذة إنها استقلت حافلة في الساعة الحادية عشرة مساء من مدينة فاس في اتجاه الدار البيضاء، وبعد ذلك قدمت مع السائق “سي علي” إلى دمنات عبر”الترونزيط”. حوالي 600 كيلومتر قطعتها الأستاذة عتيقة، من أجل تدريس فصل ذكوري، قليلا جدا ما تدرس ضمنه فتيات الدوار في المرحلة الإعدادية. فحسب الأستاذة عتيقة، فإن أهل المنطقة لا يرغبون في أن تكمل الفتاة دراستها بعد مرحلة التعليم الأساسي، “حيت إلى كملات دراستها ماغاديش تزوج.. ومايبقاوش يحملوها مالين دارها”، تعلق عتيقة في حديثها مع “الحياة”، قبل أن تضيف، وعلامة الاستغراب تعلو بشرتها التي يتخللها بعض النمش “الإسكندينافي”: “هذا عرف أو قانون حتمي يربط بين إكمال الدراسة والعنوسة.. صعب جدا أن تزيل هاته الفكرة من عقول هاد الناس”. وعن الحالة التي تعيشها داخل الإعدادية، في مثل هاته الأيام من “الكز”، كشفت لـ”الحياة” أنها تدرس السنة الثانية بتلك الإعدادية بمعية بعض زملائها في العمل، في إعدادية لا تتوفر على كهرباء أو ماء أو حتى مراحيض. وقالت: “لم أكن أتوقع يوما في حياتي أن أدرس في مثل هاته المناطق.. الرجال يجدون صعوبة في تحمل قساوة المناخ والبعد عن الأهل والأحباب، فبالأحرى نحن الجنس اللطيف، ولا حول ولا قوة لنا سوى الصبر ثم الصبر”. ورغم هذا الواقع الذي يعيشه سكان هاته المناطق المنكوبة كل يوم حتى غدا عندهم حديث الصباح والمساء، فإن عتيقة ترى فيهم أناسا طيبين ومتضامنين في ما بينهم. ومع ذلك، تحلم عتيقة بالانتقال إلى أي مدينة عوض أيت تامليل.

 

في اليوم الأول

في انتظار الطريق العريضة والمعبدة

وصلنا إلى أيت مكون في حدود الساعة 17.30 مساء. كنا متأخرين، بسبب سرعة الترونزيط السلحفاتية التي كانت تتسلق الجبال الشاهقة. بدأت أشعة الشمس “الباردة”، التي لا تسمن ولا تغني من “برد”، تعلن عن موعد غروبها. لا أحد يوجد في المنطقة، اللهم صوت خرير مياه ذوبان الثلوج في القمم المجاورة يسمر المكان، ويعزف سمفونية أطلسية تتكسر مع صخور صلبة تنتشر في كل مكان. برد شديد يلف دوار أيت مكون، وثلوج تحاصر قدميك اللتين انغرستا بأعماق الثلوج. أقل من 10 درجات، هنا، مما يجعلك تبحث عن التدفئة بشتى الوسائل حتى ولو تطلب الأمر منك أن تحرق بعض أغراضك الشخصية…

ونحن آتون، في الترونزيط، إلى أيت مكون، كان قد عرض علينا محمد الذهبي، صاحب مأوى صغير بأيت مكون، المبيت في المأوى، الذي خصصه للسياح الأجانب. مأوى، رغم صغر حجمه (غرفتين وبهو)، إلا أنه كان دافئا بعض الشيء بالمقارنة مع الطقس البارد والقارس خارجه.

محمد الذهبي ألف أن يأتي السياح إلى المنطقة لاستكشاف جماليتها وكذا بعض النقوش التي تعود للإنسان القديم وتتميز بها أيت مكون وكذا أيت بولي. تلك النقوش مغطاة هذه الأيام بكفن الثلج، الذي يصل سمكه، حسب الذهبي، إلى متر و20 سنتيمتر. يقال الذهبي لـ”الحياة”: “هناك العديد من المناظر الطبيعية التي من شأنها رفع وتيرة السياحة بأيت مكون، لكن هذا يعد من المحال، بسبب الطريق غير المعبدة التي تمنع وصول les caravanes، فقط أصحاب الدراجات النارية هم من يأتون إلى هنا”. ويوضح محدثنا، وهو يسكب الشاي الساخن في أكواب مرصعة بخيوط من ذهب: “الطريق هي مشكلتنا الأساسية”. وفضلا عن هذا، يضيف: “كذلك لا نتوفر على الكهرباء، فمازلنا نستعمل الشموع والقناديل والطاقات الشمسية”. ويختم الذهبي كلامه بمقارنة يائسة: “نحن لا نعيش أي شيء من التمدن أو التطور في هذه المنطقة مثلما هو الحال بالمناطق الأخرى التي تزدهر فيها السياحة من قبيل أوزود إواريضن.. فمثلا الأخيرة يوجد بها بقايا آثار الدايناصور والكل يعرفها ويقصدها بسهولة تامة، لأن الطريق عريضة ومعبدة”.

رغم أن أيت مكون تضم أكثر من 11 أسرة (تالكانونت)، تتكون كل واحدة من 24 شخصا، يقول الذهبي، فإن المسؤوليين لا يهتمون بالمنطقة ولا بسكانها. فمنذ سنوات لم تعرف أي تغيير سوى وعود كاذبة لعقول سالبة، كلام في كلام لا شيء يتغير في هذا المكان. وعن المساعدات الإنسانية التي منحتها، مؤخرا، مؤسسة محمد الخامس للتضامن، إلى بعض المناطق المتضررة والمحاصرة بالثوج، أفاد الذهبي بأن رجال ونساء المنطقة لم يستفيدوا من أي إعانات أو مساعدات من طرف الدولة. “فدواوير أيت مكون، وتوفغين، وتاغروت، وأيت علا، ومكداز، وأيت الحابوس، واشباكن… والعديد من الدواوير الأخرى، ما خذات حتى باش تنقي سنانها.. حنا كاع مكيحسبونا بنادم”، يقول الذهبي.

 

في اليوم الثاني

نحن مقصيون من مساعدات مؤسسة محمد الخامس وهذه مطالبنا

في الصباح الباكر، لليوم الثاني من وصولنا إلى أيت مكون، وبعد ليلة كاملة من الأعمال الشاقة والعراك مع شبح البرد، داخل المأوى، انتقلت “الحياة” إلى أحد المنازل بدوار مكداز، الذي يبعد عن أيت مكون بـ 15 كلم. تمكنا من الوصول إليه ذلك بعد أن صارعنا الثلج وقاتلنا الحجارة الكبيرة واتكأنا على هروات تساعدنا على صعود الجبال. منازل من الحجر الأحمر أو ما يعرف عند أهل المكان بـ”أبخاش”. لا وجود لرائحة الإسمنت في الدوار. رجال يرعون قطعان الماعز والغنم (ايكوناضن). تتخلها ثلاث إلى أربع بقرات.. ونساء يحملن على ظهورهن رزما من حطب شجر “ايفس” والعرعار، وأساف، الذي تستعمل أوراقه علفا للبهائم وأغصانه للتدفئة، كما أفاد عبد الرحمان، ابن المنطقة. نساء أخريات قطعن أشواطا من العذاب لجلب مياه الشرب في قنينات مصنوعة من الكواتشو “الركاوي”. أوحال كثيرة تثقل الأحذية قبل أن يتغير لونها إلى لون “الحمري”، وبرك من مياه الأمطار في كل مكان وأيضا على بعض أسطح المنازل. برد شديد يلفح الوجوه ويرسم زرقة على الأصابع، ويجمد الآذان.

الحطب قبل الخبز

قادنا عبد الرحمان (47 سنة وأب لـ 8 أطفال) إلى منزله في أعلى الجبل. دخلنا إلى “أحانو نتاكات”، فوجدنا أطفالا صغارا يحتمون من البرد القارس، بعد أن شكلوا سلسلة تزدحم فيها الأذرع، مشعلين نارا حمراء. رغم الدخان الكثيف الأسود الذي يكاد يخنق هؤلاء الأطفال ويسيل الدموع من بين أعينهم البريئة، فإنهم يواصلون تدفئة أبدانهم ذات اليمين وذات الشمال، طمعا في بعث الروح في أجسامهم الهشة. “في  فصل الشتاء كله يجب دائما ادخار الحطب، الذي يعتبر هو أول الأولويات، بل وقبل الخبز”، يقول عبد الرحمان. وخلال هذا الفصل، يصعب الحصول على المواد الغذائية. نحن معزولون عن العالم الخارجي.. لا أحد يهتم لحالنا”، يعلق عبد الرحمان، قبل أن يضيف بحرقة شديدة اعتلت وجهه المتوهج مثل مشكاة آجورية: “سمعنا أن مناطق أيت تامليل وتاكاوغت وتفنيست… حصلت على المساعدات الإنسانية، مؤخرا، لكننا نحن لم يصلنا أي شيء ولم يخبرنا أي أحد بأن هناك من سيساعدنا في محنتنا”. وطالب عبد الرحمان، بصوت مرتفع سمع صداه يتردد بين جبال الأطلس الكبير مثل أي زئير أسد أضناه الزمان، بإصلاح الطريق الرابطة بين مكداز وأيت مكون ودمنات، وكذلك بالتزود بالكهرباء والماء الصالح للشرب…”.

نساء يلدن في الطريق

من جهته، يكشف حسي سعيد (56 سنة) عن المشاكل التي تعاني منها نساء الدوار، بسبب عدم تواجد مستشفى مجهز بالمقومات الطبية الضرورية. يقول لـ”الحياة”: “نملك شبه مستشفى، بني سنة 1981، وماعمرو ما خدم إلى يومنا هذا، لكن في سنة 2004، أتذكر أن عامل إقليم أزيلال قام بجلب ممرضة إلى هنا، لكن سرعان ما غادرت”. ولماذا غادرت تلك الممرضة؟ تسفسر “الحياة” سعيد، ليجيب بأنها لم تتكيف مع قساوة الظروف الطبيعية القاسية. “هنايا والله ما تكون سبع لا عشتي”، يعلق سعيد، قبل أن يكمل حكايات النساء الحوامل. “عندما يشتد مخاضهن، يضطررن إلى قطع مسافة 80 كيلومتر للولادة في مستشفى مدينة دمنات”. ويؤكد سعيد أن العديد من النساء يلدن في الطريق على متن “لوندروفيرات أو الترونزيطات”، وأخريات تلفظن أنفاسهن قبل أن تصلن إلى المستشفى. ويقول: “كل سنة، لا بد أن نسجل حالات كثيرة من وفيات (النافسات)”. وحتى الأطفال الصغار، يضيف، لا يقدرون على تحمل قسوة البرد القارس، والجوع  مما يؤدي إلى وفاتهم.

ضرنا البرد وقتلنا الجوع

يصعب جدا أن تجد امرأة في أيت مكون وتتحدث إليها عن المشاكل التي تعانيها وتتخبط فيها. فالمجتمع هنا، حسب ما عاينته “الحياة”، محافظ بشكل رهيب. محمد أيت بندراس (شيخ في التسعينيات من عمره)، بملابسه البالية وكلامه الذي يذهب حينا ويعود أحيانا، يقول لـ”الحياة”: “نحن في حاجة إلى كل شيء، ضرنا البرد وقتلنا الجوع.. صعب العيش هنا، لقد وهن العظم.. البرد والمرض والجوع يقتلونني”. وحين سألناه عن الوضعية التي يعيشها سكان الدوار كلما اشتد البرد وتهاطلت الثلوج، أجاب بغضب شديد:”نعيش مثل الجرذان في أكواخنا، لا ماء ولا كهرباء ولا زاد يسد رمق الأطفال الجياع.. فقط ما ادخرناه من شعير وقمح هو الذي نحيا به حتى ينتهي فصل الشتاء المميت”.

الطريق هي سباب المشاكيل

قاطعه أحد من كان يرخي سمعه لحديث محمد بإمعان شديد، ليكشف لـ”الحياة” أن طول المسافة الشاقة التي تربط مدينة دمنات وأيت مكون هي التي تلهب أسعار بعض المواد الغذائية التي تصل إلى هنا”. وقال: “المواد الغذائية، العافية شاعلة فيها، فمثلا الدقيق ديال 50 كيلو كيدير 200 درهم، البوطة الكبيرة كتباع ما بين 45 درهم إلى 50 درهم درهم، السكر بـ25 درهم ، الشاي بـ20درهم…”. وعن النشاط اليومي لسكان أيت مكون، يفيد صاحبنا بأن لا وجود لفرص الشغل في الدوار، فقط يتم الاقتصار على بيع الجوز (الكركاع)، والتفاح. أما في ما يخص المزروعات، من قبيل القمح أو الشعير أو الذرة، “فأين ستزرعها.. فصل الشتاء كله ثلج في ثلج.. الدقيق كنشريوه وصافي.. والبهايم كيكلو القرط والتبن…”. ليعلن صاحبنا عن مطالب، أهمها إصلاح الطريق وبناء مستوصف مجهز بطاقم طبي في المستوى، ويقول: “نحن هم الأولى.. فعدد الوفيات مثلا في الصيف بسب لدغات العقارب أو موت النساء الحوامل والعجزة والأطفال الصغار يتراوح بين 5 و6 أشخاص كل سنة. ويعلق آخر في ما يشبه التساؤل: “واش حنا مغاربة ولا ماعرفت…؟؟”.

في اليوم الثالث

حميد عمار.. ميسي الأطلس الكبير

ونحن في طريق العودة إلى مدينة دمات على متن سيارة (خطاف)، لمحنا طفلا صغيرا. كان يركض بسرعة بين شعاب جبل محاذ لمزلهم، يحمل بين كتفيه محفظة زرقاء مائلة إلى السواد. وجهه الدائري يتخلله بعض الحزاز و”المشك”، بسبب البرد القارس الذي يلفحه كل صباح. ما سبب كل هذا الركض بين الشعاب؟ تسفسره “الحياة”، بعد أن طلبنا منه التوقف لبرهة، فيجيب قائلا: “بقي لي 12 كلمترا لأصل إلى الثانوية الأطلسية الإعدادية بأيت تامليل، هناك سأكون مع زملائي في الجناح الداخلي بالمؤسسة”.

حميد عمار، هو اسمه، مازال يلهت مثل أي حصان قطع مسافات طويلة في السباق. أفاد بأنه يدرس في السنة الثانية إعدادي، وأن له 7 إخوة، بينهم أربع إناث كلهن لم يكملن دراستهن. فوالدهن، يفيد عمار، يرغب في تزوجيهن، سواء داخل الدوار أو في أي منطقة أخرى، تفاديا للعنوسة. فـ”كل فتاة كلما كبرت يقل حظها في الزواج”، يقول عمار.

في هذا الدوار، أغلب التلاميذ الذين يدرسون في الإعدادية لا يملكون أي وسيلة نقل، سوى عزيمة قوية في أقدامهم الصغيرة التي تعودت مع مرورالزمن على تضاريس المنطقة.

الإعدادية لا تتوفر لا على الكهرباء ولا على الماء. الدراسة تنقطع بشكل مستمر كلما تهاطلت الثلوج على الدوار. “يصعب جدا أن تسير في ثلج يصل سمكه إلى ما يربو على 100 سنتيم، فأهلنا لا يودون في تركنا نخاطر بحياتنا للوصول إلى الإعدادية”، يصرح عمار.

من جهة أخرى، يتحدث عمار عن حبه للدراسة ويحلم بأن يكمل دراسته بالثانوية التأهيلية بمدينة دمنات، خصوصا أنه يحفظ أحزابا كثيرة من القرآن الكريم. “نحن في هذه المنطقة نحفظ القرآن وبعض الآحاديث النبوية في سن مبكرة.. وأود أن أكمل الدراسة في هذا المجال الديني بأي مدينة مغربية”، يقول عمار.

كرة القدم هي الأخرى من أبرز هوايته، لكن دواره لا يتوفر على ملعب يخول له مزاولة هوايته المفضلة. يقول: “ماعندناش التيران ديال الكورة، فقط الجبال وحدها هي التي تغزو المكان.. في الصيف، أذهب إلى مدينة سطات عند عمي، هناك أتفرج على مباريات كرة القدم”. ولم يخف عمار عشقه للنجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، حينما قال: “أحب ذاك اللاعب وأتمنى أن أكون في مستواه الكروي في المستقبل إن شاء الله”.

هشام الضوو/ تصوير عبد الكريم علوي / الحياة

 

مشاركة