الرئيسية مجتمع مآس بالجملة: يتناولون الطعام وينامون بجوار المراحيض

مآس بالجملة: يتناولون الطعام وينامون بجوار المراحيض

كتبه كتب في 7 أكتوبر 2013 - 17:29

سيدي مومن القديم ، كريان السري، كريان الحفرة، كريان البيرات … نماذج صادمة تختزل بعضا من المآسي المتفجرة في عتمة سيدي مومن العصي عن الخضوع لكل محاولات الإحتواء. معاناة يومية يكشف رجال المنطقة تفاصيلها الممزوجة بالدموع بعد أن تمكنت الظروف القاهرة من دهسهم تحت أقدامها، ولجوارهم زوجات وأبناء ينتظرون الفرج القريب الذي تتخلله تهديدات بالتشرد، أو تسويات غير عادلة في أحسن الظروف وأوضحها مقابل حالة الغبش والضبابية التي تتخلل المنطقة.

 حين تتجاوز قدمك عتبة مدخل البراكة التي يقيم بها ميلود رفقة زوجته وثلاثة أبناء، ينتابك شعور بأنك قد اقتحمت كل الفضاء الذي يضيق بكل وافد جديد. يمين المدخل يلامس كتفك المرحاض الذي يحجبه ستار متآكل،وضع بمحاذاته قطعة خشبية لتشكل”جدارا” يفصل بينه وبين الفرن الذي يطلق على المكان المخصص له “مطبخ” وإن كانت كل المؤشرات تحيل على “كذب التوصيف”. وسط المساحة المتبقية وقفت زوجة ميلود التي أنهكها التعب بفعل عملها الليلي إلا أنها لم تتردد في التخلي عن بعض من أوقات نومها الصباحي لتسرد بعضا من معاناتها التي لا يجد الناظر صعوبة في التعرف عليها ثوان معدودة بعد ولوج”المسكن الجحر”.

«واش هاد الحفرة شقة أعباد الله»

«أمام هذا المرحاض أتناول أنا وأسرتي الطعام.. الرائحة هنا لا تطاق، والمأساة تتضاعف مع ارتفاع درجة الحرارة و تساقط الأمطار.. ورغم كل ذلك راضين بما كتب الله، لكننا مهددين بالتشرد بسبب حكم الإفراغ» تقول زوجة ميلود وهي تخرج ورقة المحكمة التي تشد انتباه مطالعها بعبارة ..”بإفراغ الشقة”.
«واش هاد الحفرة شقة أعباد الله .. نحن نعيش في ظروف لا يعلمها إلا الله، أنا لا أجد حتى ما أقتني به حذاء بسبب عملي غير القار، طردي من هنا يعني تشردي وتشرد أولادي .. أنا منساش خير هاد بنت الناس اللي كتخرج تخدم باش تعاوني وتجمع ليا وليداتي، كون كانت شي وحدة كون هربات وتشتت ليا الشمل» يقول ميلود الذي لم تنسه المحنة الامتنان لشريكة حياته بصوت مرتعش ودموع لم يفلح في مغالبتها.
تزداد الصورة سوداوية كلما أوغل الرجل وزوجته في سرد تفاصيل يومهم البائس داخل “جحر المهانة” الذي أصبح قبلة للأحكام المهدد بالإفراغ، « هذه مجموعة من الإنذارات التي تحرمنا من النوم كلما توصلنا بواحد منها» يقول ميلود وهو يخرج بعض الأوراق من معطفه الجلدي الباهت. الرث. المرقع .. تقاطعه زوجته قائلة « كل مرة جايين دايرين لينا شوهة ديال الإفراغ .. يكفينا الهم الذي نعيشه، نحن لا نستطيع حتى النوم كبقية خلق الله داخل هذا القبر الذي نكتيره بمبلغ 120 درهم شهري منذ سنة 1992»,
للنوم طقوسه الخاصة التي تشكل امتدادا لتراجيديا العشوائية، فبعد تناول العشاء الذي تعده الأم قبيل مغادرتها المنزل، يحرص الأب على التحلق رفقة أبنائه حول “مائدة العشاء” المجاورة للمرحاض، بعدها يحمل كل فرد وسادته الخاصة بحثا عن شبر يحشر فيه جسده لجوار باقي الأجساد المنهكة داخل نفس المكان الذي تتغير أدواره بتغير عقارب الساعة، فهو في الصباح مدخل، وفي أوقات الطعام “غرفة معيشة”، وبحلول الليل “غرفة نوم” مفتوحة على مرحاض يسند له الأب رأسه في مشهد حاط من الكرامة الإنسانية.
قد يعتقد الزائر أن المشهد نشاز، لكن يبقى لسيدي مومن معاييره العصية على فهم راسمي الخطط والاستراتيجيات، ففي مساحة لا تتعدى 200متر، مملوكة على الشياع لما يقارب 48 شخص تتكرر نفس المأساة بجرعات متشابهة أو أخف داخل متاهة الزنقة 15، 13،14،23،26… بسيدي مومن القديم الذي لم يتردد عدد من سكانه في الإلحاح وتكرار دعوته من أجل الولوج إلى “مسكنه” للوقوف على معاناته، «أقسم بالله العظيم أنا لا أجد حتى المكان المناسب للمبيت، لذلك أضطر للنوم رفقة ابني في مدخل البيت لجوار المرحاض، تاركا الغرفة الصغيرة لزوجتي وبناتي» يقول جار ميلود الذي لم يكن مضطرا لإشهار قسمه، فقد كان كل شيء واضح لحد إرباك التركيز، حيث تعجز العين عن حفظ تفاصيل تلك العشة التي اختلطت فيها ملامح قاطنيها بالأواني الموجودة فوق رؤسهم..السطل الموضوع لجانب التلفزة .. ملابس موضوعة فوق الأرض، وأخرى معلقة على جدران صفيحية صدأة وأخرى خشبية متآكلة شاهدة على مرور 24 عاما من المعاناة التي يكتريها صاحبها المتقاعد ب370 درهم في الشهر. تقاعد ألزم الزوجة بالخروج بحثا عن العمل، وفي أثرها ابنة لم تفلح بعد في إيجاد عمل تساعد به أسرتها “المنكوبة”.

« كل شيء هنا يحيل على المآسي التي لا يعلم بها إلا الله»

بحثا عن نماذج تكسر القتامة، كانت الوجهة نحو كريان “البيرات”.. لم تمضي ثانية عن تلقف أحد السكان عن استفسار حول وضعية الناس بالمكان حتى سارع بالإجابة، « كل شيء هنا يحيل على المشاكل والمآسي التي لا يعلم بها إلا الله، يكذب من يصف نفسه بأنه حي في هذا المكان.. في الليل لا يمكننا النوم بسبب الشجارات، الحر، الأمطار.. الفصول هنا متشابهة .. شفتي هداك الحجر والتراب اللي كيبان ليك، كلو كيدخل علينا لقاع الدار، وكيزيد علينا الواد الحار، الطوبات، الما مكاينش الناس كتغسل حوايجها غير في الزناقي بسبب الضيق .. شوفو بعينيكم ونتوما تعرفو كلشي»
لم يكن هناك بديل عن اتباع نصيحة الرجل والتجول في المكان “باش نشوفو بعينينا” أطفال يفترشون التراب، وآخرون ينبشون وسط المزابل التي لا يتكبدون عناء الانتقال إليها فهي على مرمى حجر من مساكنهم ..
بعد “البيرات” كانت الوجهة لكريان “السري” الذي تلوح معالمه من بعيد متحدية كل “أعراف الهندسة البدائية” لتبدو المساكن أشبه بعمل تجميعي لمجموعة من المتلاشيات التي تضم إطارات وعجلات، قطع قصدير صدئة، أخشاب، بلاستيك، أبواب سيارات، واجهات إشهارية، و أي قطعة تصلح لترقيع تصميم سيطلق عليه في النهاية إسم “بيت”.

يتسول ليسدد كراء غرفته

«الزنقة 28 تضم ثمانية مساكن مهددة بالإفراغ بدون مقابل بعلة وجودها داخل مساحة تعود لمقاول يطالب باسترجاعها، بينما نحن في نصف تابع لملكية شخص آخر» تقول إحدى السيدات التي تحدثت نيابة عن جارتها الغائبة عن المنزل معربة عن حجم الإهمال الذي تعيشه المنطقة، «لا أحد يكترث لنا هنا، يكتفون بالتفرج علينا ونحن نغرق، أو نعاني من الأزبال، وعندما نتوجه للمقاطعة من أجل تقديم شكاية أو طلب إذن بالاصلاح نقابل بالإهمال، أو محاولة هدم منازلنا كما وقع لجارتي»
التوجه حيث الجارة لمعاينة الهدم يكشف عن قطعة خشبية تغطي الثقب الذي أحدثه مجموعة من الرجال الذين لم يتعرف السكان عن هويتهم، « لقد قامو بإزالة القصدير الذي تمكنا من شرائه بصعوبة، وقد حاولوا هدم المكان ونحن بداخله، وطالبوا منا الخروج بدون مقابل .. كال لينا هاديك خمسة المليون اللي غادي نعطيكم باش تخرجو من أرضي، غادي نعطيها للمحامي ونخركم بالقانون .. إذا خرجنا من هنا سنكون عرضة للتشرد رفقة أطفالنا»
إلى جانب المهددين بالترحيل من طرف مالك الأرض، توجد أسر مهددة بالطرد من طرف أشخاص تمكنوا من استغلال العشوائية التي تخنق المكان لتأجير مجموعة من الغرف لعدد من الأسر. أمام باب يوجد بالأزقة الملتوية يعتقد الزائر أنه أمام باب خربة، بعد الولوج تستقبلك متاهة تنتهي بما يشبه الممر الذي يضم العديد من الغرف التي تأوي تسع أسر تستغل المكان للنوم فقط، بينما تقضي باقي أغراضها أمام المدخل الذي تحجبه مجموعة من أسمال بالية تحجب ظلام غرفة لا تغري بالنظر، لكن أصحابها يسدلونها لعل كل واحد منهم ينام على جنب لا يعرف الراحة.
« أكتري هذه الحفرة ب 750 درهم في الشهر، وصاحبها يهددني بالطرد إن لم أدفع المبلغ مما يضطرني للتسول بعد أن أفقدتني العملية التي أجريتها على مستوى الأضلاع القدرة على العمل والحركة» يقول أحد السكان الذي وجد صعوبة في الحديث بسبب شدة الألم، قبل أن تكشف زوجته أن المرض هو القاطن السابع الذي لا يبارح الغرفة التي تضم ستة أفراد، « لقد تعرضت شبكة عيني للتمزق ولم تنجح العملية التي أجراها لي أحد المحسنين، وابنتي تعاني من الربو، بينما الأخرى أخذت اليوم للمستشفى لإجراء علمية على العين .. لقد تضررت صحتنا برائحة البئر الذي يوجد بمحاذاة مع الغرفة» تقول الأم التي تتحسس طريقها بصعوبة بسبب مشكل الرؤية الذي تعاني منه.
«لو كنت أعلم أن صحتي ستخونني عندما غدرت البادية اتجاه البيضاء سنة 2006 لما بقيت هنا .. كنت كنبيع ونشري ولكن اليوم وليت كنمد إيدي، الغالب الله» يقول الرجل الذي غلبته دموعه في نهاية المطاف وهو يخرج من جيبه عشرة دراهم لن تغطي واجب الكراء، ومصاريف دراسة ابنته، أو تأمين وجبة الغذاء المناسبة لتقتصر الأسرة على تناول بعض البيض والخبز.

«كنضطر نعس في بيت واحد مع بنتي ونسيبي»

«هناك مكان أكثر مأساوية» يقول أحد الشباب بعبارة تستفز الخيال في محاولة لتركيب صورة عن ما هو أسوأ مما تمت معاينته.. « هناك ناس يعانون أيضا داخل كريان الحفرة». إلى “الحفرة الموعودة” كانت الوجهة بعد الوقوف في المكان يضطر الزائر إلى توجيه بصره خلف جدار مهدوم بحثا عن مكان الكريان، «آجي من هنا .. » تقول امرأة أحنى الدهر قامتها وهي تلج مكانا أشبه بالأطلال . بعد ولوج المكان تعلم أن لقب الحفرة لم يطلق جزافا عن تجمع من الأعشاش التي لا يدرك الوافد الجديد وجودها إلا بعد اختراقه لبعض الأطلال التي تضم مزبلة يخترقها أخدود “واد الحار” الذي يخترق العشش المتسترة على مآسي أسر تعيش في الأسفل وفق التعبير المادي والمجازي.
«أنا مريضة بالضيقة، وابنتي بالسكر، وحفيدتي أيضا تعاني ضيق التنفس بسبب الأزبال والرطوبة .. معندناش حتى فين نعسو، واش أعباد الله أنا كنضطر نعس في بيت واحد مع بنتي ونسيبي .. وفي الأخير باغيين يجريو علينا من هنا، فين غادين نمشيو.. راه كلشي هنا معذب» تقول الجدة وهي ترفع ستارة بالية لتكشف عن مدخل خربة تنتهي بزاويتين أطلقت عليهما “غصبا” اسم غرفتين يشغل مساحة أحدهما بقايا خزانة مهترئة تكشف أكثر مما تستر من الملابس التي تكدست بداخلها.

وحيدون .. بعد وفاة أربع أبناء

بعد الخروج من العشة التي يخيل لك أنها ضمت أكثر القصصا سوداوية، تشد “مي الزاهية” انتباهك بملامحها التي تجمع بين الهدوء والغبن. تسند جسدها الذي لا يقوى على الوقوف بمدخل بدون باب أو حاجز، تلف معصمها بمنديل رأس أزرق عله يخفف من ألمها، فمثلها لا يطمع في الحصول على دواء بسبب وضعيته المحزنة «أعيش رفقة زوجي وحيدين بعد وفاة أبنائنا الأربعة .. أنا معاه حتى يجيب الله الفراق ويدفني أو ندفنو .. معندناش فين نمشيو راه الدار بيضا هاذي، حنى منقدروش نفرقو هنا» تقول “مي الزاهية” التي تكتفي بالجلوس داخل غرفتها أو التحرك بصعوبة بين متاهة باقي العشش بانتظار عودة زوجها الذي يجني قوتها من خلال بيع السجائر.
«إلى جاب ليا شي حاجة كنقضيو بيها» تقول الزوجة التي اتخذت من زاوية غرفتها طاولة بئيسة تضم بعضا من الأواني وقارورة الغاز بعد أن هدم مطبخا تمهيدا لإخلاء المكان والرمي بها رفقة زوجها نحو المجهول. تجول بعينها في المكان وتحث زوجها على الحديث لكن الرجل الذي يقطن المكان منذ كان عمره 18 سنة، اكتفى بالتلويح بسبابته طالبا من العين أن تفتصح المكان لإعفائه من الكلام بعد أن أعيته الشكوى أمام عبث محتويات غرفته، وعبث الواعدين بغد أفضل للمنطقة…

سكينة بنزين

مشاركة