حرف الحاء

كتبه كتب في 19 سبتمبر 2013 - 00:31

كنت أكره حرف “الحاء”، رغم حضوره في “الحياة” و”الحب” و”الحرب”، لأنه ولد لدي إحساسا مؤلما لم أكن أدري وجوده قبل ذلك.. إحساسا بالعجز.. إحساس من يحس في نفسه القدرة على صعود جبل هائل ولكنه لم يجد من يسعفه لتجاوز عقبة طارئة لم تكن في الحسبان..

كان يعجبني حرف “الألف”، وكنت أكره حرف “الحاء. فالأول كان سهلا طيعا على يدي الصغيرة، وحققت بفضله أول انتصاراتي القليلة وأنا أقتحم مملكة الحروف، في تلك المدرسة الخاصة المتواضعة، بحينا المتواضع أيضا، وفي يدي لوحة صغيرة ودفتر كان على غلافه ذلك الأسد المخيف، وقلم رصاص هش براحته النفاذة؛ وفي صدري كثير من الحماس والدهشة. أما حرف “الحاء” فقد مثل بالنسبة لي تلك “الخيية الأزلية” التي تصيب الفاتح المبتدئ الذي كان يعتقد أن الأرض الجديدة التي يقتحم ستستقبله بحنان وتحضنه كما تحضنه أمه.

كان حرف “الحاء” عصيا على يدي الصغيرة، فيه انحاء ومنعرج لم أفلح قط في رسمهما.. وكنت أغار من المعلمة وهي تخطه برشاقة وخفة، ثم تردد بنبرة المنتصر: حَ.. حُ..حِ.

كنت أتساءل في سري كيف تعلمت رسمه بتلك الرشاقة ومن هذه المعلمة التي لقنتها؟. أما هي فلم تكن تعلم كيف تعلمني تفكيك هذا الحرف اللعين في ذهني حتى أتمكن من رسمه على الورق، وكانت تأمرنا فقط بنقله كما رسمَته بمنقاره الحاد وبطنه المنساب برشاقة. فكنت أحاول.. وأحاول..ثم أحاول.. دون جدوى..

كنت أكره حرف “الحاء”، رغم حضوره في “الحياة” و”الحب” و”الحرب”، لأنه ولد لدي إحساسا مؤلما لم أكن أدري وجوده قبل ذلك..  إحساسا بالعجز.. إحساس من يحس في نفسه القدرة على صعود جبل هائل ولكنه لم يجد من يسعفه لتجاوز عقبة طارئة لم تكن في الحسبان..

 وحتى أعوض عجزي عن رسم الحاء (وباقي الحروف، ولكن بدرجات متفاوتة) رسما سليما رحت أنافس أقراني في الحفظ وترديد ما تقوله المعلمة والمعلم و”المطريس” و”مسيو”، وما كنا نقرأه في مقرراتنا الملونة. كانت لعبة مسلية في الأول، وكنت أحس بزهو فريد وأنا أقف في الفصل وأستظهر ما حفظته بأقصى سرعة، كأنني أحمل رشاش حروف أقصف به كائنا خرافيا لا يراه غيري. لكن مع مرور السنين والمواسم الدراسية اكتشفت أن ذاكرتي ترفض أن تكون “ببغائية”، وأنها لم تكن ترضى الاحتفاظ سوى بما أحسه حقا.

المهم، أنني أفلحت في تدريب النفس على قبول “عاهة الحاء” هذه، والتعود عليها كما تعود(الكاتب الأرجنتيني الكبير) بورخيص على فقدان البصر.. بل كما تعودت بلادنا على “عاهة التعليم” التي تعيق كثيرا تقدمها بين الأمم منذ الاستقلال.

فالمغرب يعتبر، في عدد من التقارير الخاصة بالتنمية، تلميذا فاشلا، وغير قادر على مسايرة إيقاع أقرانه من الأمم. والسبب في أغلب الحالات يرجع إلى ضعف المنظومة التعليمية وهزالة ما “تنتجه” من “متعلمين”.

فتعليمنا، بأمراضه المركبة والمعقدة والمتشابكة (ضعف المردودة.. ضعف البنيات التحية، التيه المنهجي، الهدر المدرسي…)، تحول إلى ما يشبه متاهة “ديدالوس” الإغريقية وليس لدينا “أريان” تسعفنا بخيطها حتى نخرج منه أفرادا سالمين، وليس مجرد كائنات غير واثقة من نفسها، وتبحث في غالب الأحيان عن الأمان في حضن الإدارة، وربما في أحضان أخرى.

فهو لم يفلح عموما في تكوين أفراد يتمتعون بكامل “فردانيتهم”، قادرين على التفكير الحر ويمتلكون الوعي النقدي، وهذان شرطان أساسيان لبناء مجتمع ديمقراطي قادر على التحرر من شرنقة الانغلاق وسياجات الاستغلال بمختلف أصنافها وأنواعها.

والخطير أننا تعودنا على هذه العاهة لدرجة صرنا نكاد نعتبرها أمرا طبيعيا، ولا نلتفت إليها سوى لما “يُعيِرنا” بها أحد، أو نحس فعلا بأنها قد استفحلت حتى صارت في حال تشبه حال صخر، أخي الشاعرة العربية الكبيرة الخنساء، في آخر أيامه.

ففي إحدى غاراته أصيب صخر إصابات بليغة جعلته طريح الفراش لمدة طويلة حتى يئست زوجته من شفائه، ولما سألها أحد عنه  قالت عبارتها المغموسة في عجزها ويأسها الخرافيين “لا هو حي فيُرجى ولا ميت فيُنسى”، كم أخشى أن يكون هذا هو حال تعليمنا اليوم.. هذا التعليم الذي زرع في عاهة الحاء –كما زرع في الآخرين عاهات أخرى ربما – التي مازلت أعاني تبعاتها، بعضها أعيه وكثيرها لا أعيه ، وربما سأظل …

مبارك لمرابط

 

مشاركة