الرئيسية اراء ومواقف وثيقة الأزهر والمثقفين حول منظومة الحريات نموذج للعقل الفقهي المجدّد

وثيقة الأزهر والمثقفين حول منظومة الحريات نموذج للعقل الفقهي المجدّد

كتبه كتب في 18 فبراير 2012 - 00:48

بعث إليّ الصديق أحمد بن الصديق مشكورا بوثيقة علماء الأزهر والمثقفين المصريين حول منظومة الحريات الأساسية، والتي أصدروها من باب التوجيه الفكري والمبدئي للحراك الشعبي المصري، وللمجتمع السياسي الذي أصبح يقوده العسكر بجانب الإخوان والسلفيين الفائزين في الإنتخابات الأخيرة في ظروف بالغة الحساسية والتوتر.

وهي وثيقة هامّة بالنسبة للمغاربة أيضا، الذين يعيشون مرحلة ما زالت يطبعها الغموض سواء بالنسبة لتوجهات السلطة الحاكمة أو الإسلاميين المشاركين في الحكومة الحالية، والذين بدا بوضوح توجههم نحو توزيع الأدوار بينهم وبين التيار الدعوي، في ظلّ استحالة مغامرة الحزب الأغلبي بخطوات غير مأمونة العواقب داخل دواليب الدولة.

أحمد عصيد

وتخبرنا وثيقة الأزهريين والمثقفين المصريين التي أقدمها للقراء الذين لم يطلعوا عليها بعد، بأنهم “قد واصلوا نشاطهم وتدارسوا فيما بينهم القواسم الفكرية المشتركة في منظومة الحريات والحقوق الإنسانية، وانتهوا إلى إقرار جملةٍ من المبادئ والضّوابط الحاكمة لهذه الحريات، انطلاقًا من متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، وحفاظًا على جوهر التوافق المجتمعي، ومراعاة للصالح العام في مرحلة التحول الديموقراطي، حتى تنتقل الأمّة إلى بناء مؤسساتها الدّستورية بسلامٍ واعتدال وتوفيقٍ من الله تعالى”.

ولم تخف الوثيقة انزعاج العلماء من مظاهر الغلو والتطرف الديني التي أصبحت تهدّد الحياة السياسية والإجتماعية المصرية، بسبب شغب السلفيين بصفة خاصة، الذين اعتقدوا أن ثورة الشباب الحرّ بمصر، والتي سبق لهم أن أدانوها باعتبارها كفرا وعصيانا لـ”أولي الأمر”، تشكل بوابة عبور لإقامة الدولة الدينية كما يتصورونها. ولهذا أشار محررو الوثيقة بوضوح إلى أنّ غرضهم هو الحيلولة دون “انتشار بعض الدعوات المغرضة، التي تتذرع بحجة الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتدخل في الحريات العامة والخاصة الأمر الذي لا يتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي لمصر الحديثة، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى وحدة الكلمة والفهم الوسطي الصحيح للدين والذي هو رسالة الأزهر الدينية ومسؤوليته نحو المجتمع والوطن”.

ولأن أم الحريات هي حرية العقيدة والضمير فقد خصّص لها العلماء الفقرة الأولى من وثيقتهم معتمدين المرجعيتين الدينية والقانونية، ومؤكدين على ما يلي:”تُعتَبر حريّةُ العقيدة، وما يرتبط بها من حقِّ المواطنة الكاملة للجميع، القائم على المساواة التامة في الحقوق والواجبات حجرَ الزّاوية فى البناء المجتمعي الحديث، وهي مكفولةٌ بثوابت النصوص الدِّينية القطعيّة وصريح الأصول الدستورية والقانونية، إذ يقول المولى عز وجل ” لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ” ويقول : “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” ، ويترتّب على ذلك تجريم أي مظهر للإكراه في الدين، أو الاضطهاد أو التمييز بسَبَبِه، فلكلِّ فردٍ في المجتمع أن يعتنق من الأفكار ما يشاء، دون أن يمس حقّ المجتمع في الحفاظ على العقائد السماوية، فللأديان الإلهية الثلاثة قداستها، وللأفراد حريّة إقامة شعائرها دون عدوان على مشاعر بعضهم أو مساس بحرمتها قولاً أو فعلاً ودون إخلال بالنظام العام” .

وتضيف الوثيقة من باب التفصيل والشرح والتأكيد وإزالة اللبس: “ويترتّب على حـــق حرية الاعتقاد التسليم بمشروعية التعدّد ورعاية حق الاختلاف ووجوب مراعاة كل مواطن مشاعر الآخرين والمساواة بينهم على أساسٍ متينٍ من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص في جميع الحقوق والواجبات” .وهي القيم التي ما زال بعض إسلاميينا المغاربة وفقهائنا يجدون صعوبة في قبولها، معتبرين أنها قيم غريبة عن “تقاليدنا العريقة”، هذه التقاليد التي ليست سوى وصفات فقهية جاهزة، تهدف إلى تنميط المجتمع في نموذج وحيد ونهائي للتديّن المنغلق.

وتعطينا الوثيقة نموذجا للقراءة الإجتهادية للشرع عبر البحث فيه عن القيم الكونية النبيلة واعتمادها في ملائمة الدين الإسلامي مع حاجات المجتمع المعاصر، موجهة في نفس الوقت نقدا قويا لنزعات التطرف اللاعقلانية التي تؤدي إلى خلق التصادم بين العقيدة ومؤسسات المجتمع وتطلعات قواه الحية إلى حياة أفضل و أكثر إنسانية حيث تقول:” كما يترتب أيضًا على احترام حرية الاعتقاد رفض نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين بهذه العقائد، بناء على ما استقرَّ من نظم دستورية بل بناء على ما استقر – قبل ذلك – بين علماء المسلمين من أحكام صريحة قاطعة قرّرتها الشريعة السمحاء في الأثر النبوي الشريف : ( هلا شققتَ عن قلبه) (…) وقد أعلى أئمة الاجتهاد والتشريع من شأن العقل فى الإسلام، وتركوا لنا قاعدتهم الذهبية التي تقرر أنه : ( إذا تعارض العقل والنقل قُدَّم العقل وأُوِّل النقل ) تغليباً للمصلحة المعتبرة، وإعمالاً لمقاصد الشريعة”.

وبجانب حرية العقيدة والضمير تناولت الوثيقة موضوع حرية التعبير التي اعتبرتها أساس الدولة الديمقراطية، ملفتة الإنتباه إلى أهمية التربية على الحرية والحق في الإختلاف قائلة:”ويعلن المجتمعون أن حرية الرأي والتعبير هي المظهر الحقيقي للديموقراطية، وينادون بتنشئة الأجيال الجديدة وتربيتها على ثقافة الحرية وحق الاختلاف واحترام الآخرين، ويهيبون بالعاملين في مجال الخطاب الديني والثقافي والسياسي في وسائل الإعلام مراعاة هذا البعد المهم في ممارساتهم، وتوخي الحكمة في تكوين رأي عام يتسم بالتسامح وسعة الأفق ويحتكم للحوار ونبذ التعصب”. ولم يفت محررو الوثيقة أن يشيروا إلى الفارق بين حرية التعبير وبين الإساءة إلى الآخر وإلى المعتقدات والأديان بتسفيهها أو تحقيرها، معتبرين أن الحرية لا تعني المسّ بكرامة الآخرين.

ودعت الوثيقة فيما يخصّ البحث العلمي إلى تكريس مبدإ حرية البحث العلمي في إطار استقلالية تامة ودون الخضوع لأية وصاية سياسية أو دينية وإلى “أن تمتلك المؤسسات البحثية والعلماء المتخصصون حـــرية أكاديمية تامة في إجراء التجارب وفرض الفروض والاحتمالات واختبارها بالمعايير العلمية الدقيقة، ومن حق هذه المؤسسات أن تمتلك الخيال الخلَّاق والخبرة الكفيلة بالوصول إلى نتائج جديدة تضيف للمعرفة الإنسانية، لا يوجههم في ذلك إلا أخلاقيات العلم ومناهجه وثوابته”.

وعرجت الوثيقة في النهاية على موضوع حرية الإبداع الأدبي والفني معتبرة إياها “من أهم مظاهر ازدهار منظومة الحريات الأساسية وأشدها فعالية في تحريك وعي المجتمع وإثراء وجدانه، وكلما ترسخت الحرية الرشيدة كان ذلك دليلًا على تحضره، فالآداب والفنون مرآة لضمائر المجتمعات وتعبير صادق عن ثوابتهم ومتغيراتهم، وتعرض صورة ناضرة لطموحاتهم في مستقبل أفضل”.

إن الحاجة إلى عقل فقهي مجتهد ومنفتح على ابتكارات العصر وقيمه شرط أساسي يضمن بلا شك حلّ معضلة الجمود العقائدي لدى المسلمين، ويمكّن بجانب النضال الحقوقي والفكري الحداثي المعتاد من مواجهة التطرف الديني بكل

مشاركة