الرئيسية تربويات أطفال الرحل بأعالي الجبال يودعون «أقسامهم» البلاستيكية نحو مدرسة حقيقية

أطفال الرحل بأعالي الجبال يودعون «أقسامهم» البلاستيكية نحو مدرسة حقيقية

كتبه كتب في 12 يونيو 2013 - 17:56

هي تجربة متفردة في أعالي الجبال هدفها محاربة الهدر المدرسي، وتشجيع التمدرس بها. تمكين أبناء الرحل أو « إحالن» بمنطقة تنغير الشاسعة من فرص مواصلة مشوراهم الدراسي في شروط مناسبة أمر بات ممكنا، كان الانتقال من فصل هو عبارة عن خيمة من البلاستيك إلى حجرات دراسية، حلما للآباء والتلاميذ أصبح منذ أسبوع حقيقة، وبفضل شركاء جمعويين ومؤسسة للمعادن  بدوار تيمارزكوين بجماعة واكليم باقليم تنغير..

وهم على مشارف عطلة الصيف الطويلة إصطف أطفال الرحل القادمين من المساكن المتفرقة  بدوار تيمارزكوين بجماعة واكليم باقليم تنغير أمام  الخيمة البلاستيكية البيضاء المهترئة فوق الهضبة. كانوا يتطلعون إليها بمعية أستاذهم «أحمد المصلاحي» بحنين مشوب برغبة في سرد تفاصيل مواسم دراسية داخل فضاء احتضن لثلاث سنوات شغبهم الطفولي، وشغفهم المتزايد للتمدرس .  كان بالخيمة  مجموعة من المقاعد والطاولات وسبورة وضعت عند مدخلها. الخيمة كانت منحة من منظمة إسبانية في إطار تشجيع تمدرس أبناء الرحل بعدد من دواوير المنطقة، لكنها بعد يوم سادس يونيو الجاري، ستتحول إلى مجرد ذكرى فقط في المشوار الدراسي للتلاميذ وسيترجم هذا التاريخ بداية اكتشاف أبناء المنطقة ولأول مرة مامعنى التمدرس في مدرسة حقيقية، والجلوس في طاولات ومقاعد وسقف يحميهم من مفاجآة هبوب الرياح القوية المحملة بالأتربة، والتي كانت تفسد عليهم حصصهم الدراسية، وهم تحت سقف الخيمة البلاستيكية.

لكن قبل الوصول إلى موقع بناء المدرسة، فوق الهضبة المطلة على مجرى واد نضب ماؤه، كان لابد من سلك طريق غير معبدة تصل مسافتها إلى 13 كلم. مسلك  أنجز بطرق تقليدية  من لدن  الجمعيات المحلية، بمساعدة إحدى المنظمة الأجنبية. طريق كثيرا ما تتحول إلى فخ حقيقي للسيارات من النوع الخفيف، والدراجات النارية، حيث يجبر السائقون على التخلي عنها في انتظار النجدة التي قد تتأخر لساعات طويلة، والعودة مشيا، أو عبر سيارات الأجرة القليلة التي تعبر الطريق بين الفينة والأخرى لكن بشكل متقطع.

قصة مدرسة في خيمة من البلاستيك

إلى حدود الموسم الدراسي لسنة 2010 كانت المنطقة  المعروفة بالرحل تفتقر إلى أي  بنية دراسية من شأنها تمكين أبناء المنطقة من حق التمدرس. في ذلك التاريخ أبرمت منظمة إسبانية حلت بالمنطقة وأحدثت فرعا لها بتنغير من خلال اتفاقية مع وزارة التربية الوطنية. أما الهدف فكان تدريس أبناء الرحل بهذه المناطق المتفرقة بجماعة اكنوين، أمسمرير، مهمة لم تكن سهلة في البداية حيث شرع في البحث عن مكان لتجمع الرحل، خاصة أن بعض التلاميذ يقطعون خمسة كلمترات قبل الوصول إلى مركزية سيدي علي ايبورك. بعض التوافق على مكان لإنشاء « المدرسة» تم إحداث خيمة بلاستيكية كبيرة وتحويلها إلى قاعة درس، وأخرى كسكن وظيفي. لكن الرياح القوية هزت أركان هذا الأخير، ليجد الأستاذ «أحمد مصلاحي» المجاز سنة 1996 نفسه بدون سكن، ويجبر بالتالي على الإنتقال إلى دوار سيدي علي ايبورك القريب من المدرسة قبل أن يبادر السكان الذين تحسسوا المشكل، وقاموا بشكل تطوعي ببناء كوخ بجوار الخيمة البلاستيكية.

في السنة الأولى تمكن أحمد من تسجيل 26 تلميذا، خلال  موسم 2010-2011 ( رقم سيرتفع في المواسم الموالية ). وهي بداية كانت مشجعة، هكذا يصفها محمد أسكا، رجل تعليم بالمنطقة، وفاعل جمعوي بجماعة ايكنيون، ورئيس جمعية تزلاخت للتنمية، في وصفه للبدايات الأولى للمؤسسة « استطاع الأستاذ ونتيجة الدعم الذي كان يتوصل به من لدن المنظمة الاسبانية، من ضمان الإطعام المدرسي، فقد كان يتكفل بإعداد الوجبات وتوزيعها على أبناء الرحل» . الفاعل يستطرد « في السنة الموالية، إزداد عدد التلاميذ، لكن هذا العامل صاحبته عوائق، من بينها استمرار نفس الشروط غير المشجعة بالنسبة للتلاميذ وأولياؤهم من الرحل ». لكن في نهاية نفس السنة، عقد اجتماع بعمالة تنغير، حيث أخبرت المنظمة أن خيمة التدريس ستصبح تابعة لنيابة التعليم بتنغير، وإلى مجموعة مدارس سيدي علي أوبورك. وهو مايعني ضمنيا تغيير تسميتها من مدرسة للرحل إلى فرعية تمزركروين، وبالتالي فالمنظمة الاسبانية رفعت المنظمة الأجنبية يدها عن المشروع، وعن ضمان حصص الإطعام.

الاصرار على ضمان تمدرس الأبناء كان قويا بمنطقة تتميز عموما بتشتت ساكنتها من الرحل. فمعظمهم يتخذ من المغارات وسط الجبال سكنا مؤقتا لهم في ترحالهم. لكن خيمة الدرس لم تصمد طويلا. فخلال شهر أكتوبر من السنة الماضية، ستتسبب للرياح القوي التي هبت على المنطقة في اقتلاع أركانها، مما دفع الأستاذ أحمد وعدد من أولياء الأمور إلى الانتقال جماعة إلى مقر عمالة تنغير، لطرح المشكل « كان مطلبنا واضح إلى المسؤولين، البحث عن حلول لضمان تمدرس أبنائنا، قبل كل شئ.. » يعلق أحد آباء أولياء تلاميذ من الرحل بثقة. مطلب صادف وجود شركة المعادن بإميضر وهي تنقب عن موارد مائية عن طريق إحداث ثقوب بعدد من المناطق قصد استغلالها صناعيا بعد تنامي الصراع حول المواد المائية بالمنطقة، ومطالب السكان بعقلنة الاستغلال، بدا ذلك أثناء الاجتماعات التي عقدتها الشركة مع سكان جماعة سيدي علي ايبورك. خلالها جاء مطلب إحداث وبناء قاعة دراسية للتلاميذ وهو المطلب الذي وقف عليه مسؤولوا الشركة بعين المكان، حيث تمت الموافقة على ضم مشروع بناء الفرعية إلى البرنامج الاستعجالي الذي وضعته المؤسسة بمعية مجموعة من الجمعيات المحلية بعدد من المناطق بإميضر تحديدا.

مشروع طموح يرى النور

عملية تشييد المؤسسة لم يتأخر طويلا. بدأ كل شئ دون انتظار ولامقدمات «شكلية» قد تؤخر المشروع. هكذا وصفه أحد مسؤولي مؤسسة مناجم، عند حديثه عن الكيفية التي تم بها الشروع في ترجمة مشروع المدرسة على حقيقة. بل أبعد من ذلك، فإن المقاول وهو من أبناء جماعة «سيدي علي إيبورك»، تحمس للمشروع بدوره « لقد شرع في عملية البناء دون أن يتوصل إلى حد يوم التدشين بمستحقاته.. رغم أنه قد شرع في بناء المرافق الصحية بالمدرسة، في انتظار أن تفي الجهة بالتزاماتها، خاصة فيما يتعلق بحفر بئر بالقرب من المؤسسة التعليمية لتزويد هذه المرافق بالماء. أما في تفاصيل المشروع، فقد بلغت كلفته الإجماعية 450 ألف درهم. وسيستقبل 45 تلميذا من دوار تيمارزكوين ضمنهم 27 فتاة.

عدد من الرحل كانوا يتابعون بدورهم عملية تدشين المدرسة بفضول. فإمكانياتهم المادية، وظروف عيشهم، كانا من المعيقات التي دفعت البعض منهم إلى عدم تمكين أبنائهم من حقهم في متابعة دراستهم بشكل منتظم. فنشاطهم الرئيسي يتمثل في رعي الماشية، من ماعز وجمال، البعض منهم من يتحرك بحثا عن الكلأ، فيما البعض الآخر يفضل الاستقرار في المغارات، والخيم، الأمر الذي يشكل فرصة لمنح أبنائهم فرصة متابعة دراستهم بالمؤسسة. موارد الرحل لاتقتصر على مداخيل بيع الماشية في أسواق المنطقة، بل إن عددا من العائلات تعتمد على مساعدات المهاجرين بالخارج.  خاصة القاطنين باسبانيا وايطاليا، إلا أن تزايد عدد العائدين منها في الآونة الآخيرة، عمق من الوضعية المادية للأسر المستقرة في الجبال وهضاب المنطقة.

«باسو» الرجل الثمانيني كان حاضرا بين الجموع.  تنقل في ذلك اليوم الحار مشيا على الأقدام من دوار «تغبلوت نخف نوفود نسكر» نحو الهضبة االتي شيدت بها الحجرتين الدراستين وسكن وظيفي، كان أكثر حماسا وحيوية، وهو يتابع تحركات حفيده بين التلاميذ الصغار. كانت ابتسامة ارتياح تعلو محياه بينما كان الصغار يلجون واحدا تلو الآخر الفصل الدراسي الجديد مخلفين وراءهم الخيمة البيضاء قال بأمازيغية « أربا نيوي ما يقرا القرآن.. » . «حفيدي سيقرأ القرآن ».. لكن في خضم حماسه، كانت مطالب ساكنة دواره حاضرة على لسانه قال دون تردد « نرا أمان .. نرا الصوندا » نريد ماء، نريد أن يحفروا لنا بئرا ». فالماء عصب الحياة بهذه المناطق، وحسب أحمد الفاعل الجمعوي، يعتبر معضلة كبيرة. فالمتوفر منه مالح، والسكان يضطرون حاليا إلى الاستغناء عنه، وعدم شربه. حيث يتحركون في قوافل دائمة للبحث عنه في عيون وادي  «أكلزي» لأجل الشرب . « لقد شعر السكان بأن طعم الماء مالح ويهدد صحتهم، فنسبة الكالكير مرتفعة، وهم لايترددون في المطالبة بحفر آبار بالمنطقة  لضمان تزويد منظم» يقول أحد سكان دوار «سيدي علي أوبورك» وعلامات القلق بادية على محياه، قبل أن يستطرد قائلا « نطالب بتعميق الآبار، واستغلال ماء المطفيات بشكل ناجع.. لسد الخصاص والنقص في الماء الشروب ».

قلق لمابعد الطور الابتدائي..

« لولى برنامج تيسير لما أمكن للعديد من الأسر الصمود وتحقيق تمدرس  لأبنائها » هكذا علق أحمد بثقة. « ايقاريدن نيشران لان ..» « هل وصلت المبالغ المالية لأبنائنا » سؤال لايتردد عدد من الرحل، من تكراره على مسامع «أحمد المصلاحي»، وهو يهم بمغادرة فصله الدراسي بعد انتهاء الحصص في الساعة الثالثة لما بعد الزوال، فالتوصل بمبالغ دعم التمدرس من وزارة التربية الوطنية، ورغم قلته يعتبر حافزا للآباء لتسجيل أبنائهم، فالوزارة تخصص 60 درهما للمرحلة الابتدائية، و80 درهما للمستوى الثالث والرابع، ثم 100 درهم للمستوى الخامس والسادس. « إنهم يسعدون كثيرا بالحصول على مجموع  المبلغ رغم التأخر المسجل في صرفه من لدن الوزارة .. « يؤكد رجل تعليم بالمنطقة، في إشارة إلى أهمية الدعم المباشر للأسر الفقيرة في ضمان التمدرس، مع المطالبة دائما حسب المعني ب« الرفع من قيمته، وتعميمه على أسر من منطقة هي في أمس الحاجة لالتفاتة من هذا النوع للحد من الهدر المدرسي وحماية أبنائها من آفة الأمية المنتشرة بقوة في هذه الدواوير المنسية».

« للأسف معظم التلاميذ لايتممون دراستهم في المستوى الثانوي..» هكذا وصف أستاذ بالدوار المستقبل الدراسي للتلاميذ . فهم يجبرون على توقيف مشوارهم الدراسي كرها. فقلة منهم تتمكن من مواصلة الدراسة لسنة أو سنتين بعد مرحلة الابتدائي قبل التوقف. « الامكانيات المادية، لاتسمح للأسر بارسال أبنائها إلى مدينة تنغير قصد متابعة الدراسة، فصعوبة الولوج إلى لداخليات بفعل قلتها، إضافة إلى أن كراء مسكن يكلف الأسر ميزانية لاقدرة لهم على تحملها،عوامل تدفعهم إلى التخلي عن ذلك، وإجبار التلاميذ على العودة إلى دواويرهم لمساعدة آبائهم في أنشطة الرعي». لذلك كان مطلب الفعاليات الجمعوية بالمنطقة ضرورة توفير النقل المدرسي، نحو تنغير على الأقل للتخفيف من هذه الظاهرة، خاصة أن نسبة الهدر ترتفع لدى الفتيات أكثر من الذكور.

وهم يلجون لأول مرة فصلهم الدراسي الجديد، كانت عيونهم وتعابير ملامحهم تختزن براءة لاتوصف. فهم لايصدقون أنهم أخيرا في حجرة حقيقية للتمدرس، رائحة الخشب، والصباغة تملأ الفصل، انتباه الصغار كان مشدودا نحو أستاذهم أحمد. كان هذا الأخير يرتدي وزرته البيضاء، ويمسك بقطعة طباشير بين أنامله ليبدأ وفي لجة الترقب في كتابة تاريخ ذلك اليوم  – الخميس سادس يونيو 2013 – تاريخ لن ينسى  في مسار الرحل لمؤسسة ( تجربة) ولدت بين الجبال  لتحفظ المشوار الدراسي للعشرات من الأطفال الرحل المتعطشون أكثر من غيرهم للتعلم وسط بيئة قاسية، وشروط مادية منعدمة، ليتردد بعدها صدى كلام أحد المسؤولين باقليم تنغير إليهم، حيث خاطبهم بلهجة تفاؤل « إنكم ستستفيدون جماعيا من المخيم الصيفي لهذه السنة، ونحن سنحرص على تتبع هذه العملية لكي نضمن لها كافة شروط النجاح ..».

سوس بلوس

الأحداث المغربية

مشاركة