الرئيسية تمازيغت ملف : فنـانات انطلقـن من الصفـر

ملف : فنـانات انطلقـن من الصفـر

كتبه كتب في 16 ديسمبر 2012 - 12:19

مسارات مبدعات تحدين الصعاب لمعانقة الشهرة…عودنا التاريخ بدروسه المستمدة من تكرار وقائع وحالات إنسانية معينة، أن بالإمكان تجاوز الحتمية التي يقال إنها تكبل الإنسان وتتحكم في نوعية حضوره وسط العالم، فليس بالضرورة أن يولد المرء وفي فمه ملعقة من ذهب أو ووسط ظروف ملائمة لكي ينقش اسمه من ذهب في سجل التاريخ، أو على الأقل يحقق نصيبا من الشهرة يجعله معروفا على نطاق محلي. أما في الحالات الإنسانية بصيغة المؤنث، فنكون أمام حتمية مضاعفة لا لشيء سوى لأن المرأة ظل محكوما عليها في المجتمعات الثالثية أن تظل أسيرة قيود فرضتها عليها العقلية الذكورية التي تستوطن عقول الكثير من الرجال وحتى النساء، تجعل من الصعب عليها اقتحام مجالات ظلت إلى حدود الأمس القريب بعيدة المتناول، خاصة مجال الفن والإبداع الذي كان يُنظر إلى المشتغلين فيه نظرة ملؤها الازدراء والتحقير.

إلا أن كثيرا من النساء، رغم كل هذا، استطعن تجاوز هذه الحدود الوهمية، والتمرد على بيئتهن تمردا هادئا وناعما مغلفا بنوع من الإصرار والتحدي لإثبات الذات والتعبير عن مكنوناتهن تعبيرا فنيا اختلفت أشكاله ووسائله.
في هذا الملف اختارت “الصباح” نماذج لحالات بصيغة المؤنث، لمبدعات تخطين الصعاب وبدأن من الصفر ليعانقن الشهرة، باستعراض أهم المحطات التي مررن منها وكيف تأتى لهن تحقيق ما عجز عنه الآخرون.

تابعمـرانت… تألـق في الغنـاء والسيـاسـة

 سارت على نهج الروايس في تطوير الأغنية الأمازيغية..رغم أن المجتمع الأمازيغي في أصله، من الناحية الأنثربولوجية، مجتمع “أميسي” لم يكن يرى ضيرا في حضور المرأة في مختلف مجالات الحياة العامة، إلا أنه مع توالي الحضارات والأمم التي تلاقحت مع الثقافة الامازيغية على أرض المغرب، جعلت هذا البعد المميز في هذه الثقافة يتراجع لصالح ثقافة محافظة صارت تنظر بعين الشزر إلى سفور المرأة وظهورها.

ويظهر ذلك جليا من خلال الأشكال الفنية التراثية الأمازيغية خاصة الموسيقى والغناء الذي تظهر فيها المرأة ندا للند مع الرجل، لكن مع ذلك لم يكن متاحا في العديد من الفترات للمرأة أن تتجاوز القيود الاجتماعية المحافظة التي نسجت حول كيانها بشكل جعل من تعاملها مع فن الغناء في إطار ضيق لا يتجاوز المناسبات العائلية والأعراس ولا يتعداه إلى الاشتغال بالفن كحرفة ومواجهة المجتمع به.
وتعد الفنانة الامازيغية فاطمة تابعمرانت واحدة من الأسماء الفنية المتميزة التي وقعت على مسار استثنائي، تمكنت من خلاله الإعلان عن نفسها اسما أنثويا غير قابل للتجاوز في المنظومة الفنية الأمازيغية والمغربية عموما.
هذا الاسم الشهير لدى المغاربة الناطقين بالأمازيغية، أو غير الناطقين بها، لم تسقط عليه الشهرة من السماء أو كانت طريقه معبدة سالكة إليها، بل عانت فاطمة تابعمرانت الأمرين في سبيل إثبات ذاتها وتجاوز الظروف الصعبة التي نشأت فيها بمنطقة آيت بوبكر التابعة لقبائل آيت باعمران بضواحي تيزنيت، حيث رأت النور في مطلع الستينات، لكنها وجدت نفسها في مواجهة أولى علامات البؤس والحرمان بفقدان والدتها، وهي في سن صغيرة لدرجة أنها لم تكن تتذكر ملامحها.
ولم يكن سلوى الطفلة فاطمة تابعمرانت سوى الانكباب على حفظ الأغاني والأهازيج التراثية الأمازيغية لدرجة أنها تمكنت من تخزين عدد هائل منها في ذاكرتها الفنية، وهو الأمر الذي ساهم في تشكيل حسها الفني بطريقة فطرية جعلتها تنظم أولى محاولاتها الشعرية بالأمازيغية وهي لم تتجاوز بعد سن الرابعة عشرة، إذ كانت حينها معجبة برواد الأغنية الأمازيغية أمثال الحاج بلعيد السوسي وبوبكر أنشاد والحاج محمد البنسير.
وكانت الانطلاقة الفنية لفاطمة تابعمرانت سنة 1983 مع الفنان الرايس جمال حميدي، قبل أن تنتقل إلى مجموعة “اشتوكة” وبدأت في تسجيل “تنظافت” سنة بعد ذلك رفقة مولاي محمد بلفقيه.
كما حاولت تابعمرانت أن تحذو حذو الرايسات اللواتي سبقنها مثل تحيحيت مقورن ورقية الدمسيرية، فتعاملت مع الرايس محمد الدمسيري لفترة خلال منتصف الثمانينات قبل أن تشكل فرقتها الخاصة بها بداية التسعينات وترسخ اسمها في المشهد الغنائي الأمازيغي بالعديد من الأغاني التي يتداولها معجبوها مثل “إغ دي توكا” و”إيد زين” و”إيلولان”.
ولم يقتصر مسار فاطمة تابعمرانت على المجال الفني، بل عرف عنها نشاطها كذلك في مجال الدفاع عن الثقافة الأمازيغية إذ عينت عضوا بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كما ولجت المجال السياسي بعد انتخابها في البرلمان خلال الولاية التشريعية الحالية، وكانت أول برلمانية تطرح سؤالا بالأمازيغية في إطار الأسئلة الشفوية.

عزيز المجدوب

تشنويت…نجمة الرقص الأمازيغي في سماء العالمية

قهرت ظروفها الصعبة وساهمت في إشعاع الفن الأمازيغي لم تكن الفنانة عائشة تشنويت تتوقع أنها ستنجح في أن تكون من الأسماء البارزة في الساحة الفنية المغربية وأن موهبتها ستكون جواز سفرها للعبور نحو قارات أخرى لنيل إعجاب واستحسان جمهور عريض.

استطاعت تشنويت بمثابرتها وصبرها أن تهزم ظروفها الصعبة وتتخطى كل الحواجز لتصل إلى ما كانت تصبو إليه وتضيف اسمها إلى لائحة الفنانين الذين يمثلون المغرب في عدد من المحافل والتظاهرات في شتى أقطار العالم. أصبحت تشنويت فنانة معروفة ليس فقط في المغرب أو في صفوف أبناء الجالية المغربية المقيمة بالخارج، إذ وجدت لنفسها مكانة لدى الجمهور الياباني، الذي سحرته بعروضها وطريقتها المميزة في الرقص فوق الخشبة.
أحيت تشنويت سنة 2003 أزيد من أربعة وعشرين حفلا باليابان، شاهدتها شخصيات يابانية بارزة أثنت على موهبتها وعبرت عن استحسانها لفنها.
وبعد الإعجاب الكبير الذي أبدته راقصة يابانية تدعى سوماكو برقصات عائشة تشنويت على إيقاعات موسيقى أمازيغية، حلت بالمغرب بعد أن اتفقت معها على تلقينها دروسا في كيفية أداء رقصاتها.
وعرضت سوماكو على عائشة تشنويت كذلك أن تكون مديرة أعمالها في اليابان، وأن تشرف على تنظيم برنامج حفلاتها لعشاق فنها، الأمر الذي مازال مشروعا مؤجلا بالنسبة إليها، وربما ستفكر في دخول غماره مستقبلا.
لم تسمح لتشنويت ظروفها الصعبة أن تتابع دراستها وكانت الحروف الوحيدة التي استطاعت كتابتها هي لاسمها الشخصي والتي تعلمت كتابتها باللغتين العربية والفرنسية من علبة المربى.
شعرت عائشة تشنويت بألم نفسي كبير بسبب الانتقادات التي وجهت إليها لعدم قدرتها على ترديد النشيد الوطني رفقة عدد من الفنانين فوق منصة حفل ضمن فعاليات مهرجان بوجدة، الأمر الذي قالت عنه “لم يكن ممكنا أن أنسحب لأنني لا أحفظه، لكني رغم ذلك أديته بإحساس وبروح وطنية حتى ولو أنني لا أحفظ كلماته لأن ظروفي لم تسمح لي أن أتابع دراستي. وحاليا أنا بصدد حفظه لأنني رغم أميتي لا يعرف اليأس طريقي”.
لم تعرف تشنويت في يوم من الأيام طعم اليأس، فكانت دائما تسعى إلى الحفاظ على مكانتها في الساحة الفنية واسمها الذي فرض مكانته والعمل على تطوير أدائها.
ابتكرت عائشة تشنويت أسلوبا خاصا في الفن اعتبره البعض دخيلا على الثقافة الأمازيغية، بينما استحسنته شريحة واسعة من الجمهور التي اعتبرته عنوانا للفرح وطريقة مميزة تتفاعل من خلالها حركات الجسد مع الموسيقى.
استحقت عائشة تشنويت لقب “نجمة الرقص الأمازيغي”، وساهمت رقصاتها في وصولها إلى العالمية وفي إشعاع الثقافة والفن الأمازيغيين خارج أرض الوطن.
لم يتعرف الجمهور المغربي على تشنويت في مجالي الغناء والرقص فحسب، إذ دخلت تجربة التمثيل لتؤدي دورا في قصة الشريط التلفزيوني “اليتيمة”، من فكرتها والذي تعتبر أحداثه قريبة جدا من حياتها الخاصة والمعاناة التي عاشتها في مرحلتي الطفولة والمراهقة.

أمينة كندي

تحيحيت… تجرعت طعم المعاناة قبل الشهرة

 زواج في سن الثامنة حرمها من الاستمتاع بطفولتها رغم أن الفنانة فاطمة تحيحيت أدت كثيرا من الأغاني التي تعكس الفرح والسعادة، إلا أن وراء ذلك حكاية امرأة تجرعت مرارة الألم وذاقت طعم صنوف وأنواع من المعاناة قبل دخولها عالم الشهرة.  كان زواج تحيحيت المبكر وهي لم تتجاوز بعد سن الثامنة واحدا من دروب المعاناة التي دخلتها وكان لها بالغ الأثر في نفسيتها، بعد حرمانها من الاستمتاع بطفولتها. “بزواجي المبكر” تقول تحيحيت “لم أعش طفولتي مثل باقي بنات جيلي، كما أن أسرتي حرمتني من الإحساس بطفولتي وأدخلتني عالما غريبا عني قاسيت فيه عدة سنوات”.

استحالت الحياة بين فاطمة تحيحيت وزوجها الأول الذي يكبرها سنا والذي اعتقدت للوهلة الأولى أنه سيتبناها، لتعود إلى بيت أهلها بعد انفصالها عنه، لكنها ستدخل مرة أخرى غمار معاناة أخرى بعد قرار عائلتها زواجها من ابن عمها.
أكدت فاطمة تحيحيت أنها عاشت لحظات صعبة رفقة ابن عمها الذي انتقلت للعيش رفقته جنوب المغرب، ولم تخف أنها كانت في كثير من الأحيان تتمنى الموت بدلا من البقاء على ذمته.
عادت فاطمة تحيحيت إلى بيت أهلها بعد إنجاب ابنتها الأولى لتضع حدا لمعاناة زادت من تدهور حالتها النفسية، ومازلت ذاكرتها تخفي كثيرا من تفاصيلها المريرة، لم ينجح في محو بعض تفاصيلها سوى إحساسها بسعادة كبيرة إلى جانب عائلتها الصغيرة المكونة من زوجها وابنتها وعائلة زوجها الذين تحس رفقتهم بحنان ودفء افتقدته في طفولتها وكذلك تجاوب جمهورها مع أعمالها الغنائية.
بداية علاقة فاطمة تحيحيت بالغناء شبيهة بعلاقة كل بنات ونساء منطقتها، إذ كن يمارسن الغناء في مناسبات عائلية، ولكنها اتخذت مسارا مغايرا بعد قرارها الاحتراف بتشجيع من عدد من صديقاتها وقريباتها، باعتبارها واحدة من الأصوات العذبة بمسقط رأسها بمنطقة حاحا القريبة من الصويرة.
كان قرار تحيحت جريئا لأنها قررت أن تكون تحت الأضواء وأن يتجاوز غناؤها حفلات الزفاف أو غيرها من المناسبات التي تدعى إليها.
تعرف الجمهور الناطق بالأمازيغية إلى فاطمة تحيحيت في المرة الأولى في أغنية “مرحبا اللي جابتو عندنا الوقت”، لتتلقى بعدها عرضا لمشاركة الرايس الدمسيري عددا من الأغاني وتساهم بذلك في انتشارها.
تميزت أغلب أغاني تحيحيت في بدايتها بطابعها الحزين، إذ كانت تعكس كلماتها مظاهر كثير من المعاناة التي نقلتها بصدق إلى الجمهور.
واصلت فاطمة تحيحيت مسارها وقدمت إلى جمهورها باقة من الأغاني التي كانت وراء انتشارها ليس فقط داخل المغرب، بل حتى خارجه أثناء مشاركتها في عدد من التظاهرات والمحافل.

أ . ك

الورياشي… مبدعة تحدت سلطة المجتمع الذكوري

 شاعرة بالفطرة شاركت باسم مستعار في أول مهرجان للشعر الأمازيغي..تعتبر المبدعة فاظمة الورياشي من النساء القليلات اللواتي تحدين سلطة المجتمع الذكوري في منطقة الريف، واستطاعت أن تفرض اسمها في مجالات إبداعية كثيرة منها الزجل والمسرح، من خلال مشاركتها في مختلف المهرجانات والملتقيات الوطنية حول الثقافة الأمازيغية.

وقال محمد الزياني، باحث في الثقافة الأمازيغية إن الورياشي ماتزال تقاوم وتحارب واقعا مفروض يحجب عنا ملامح الغد الآتي، مضيفا أنها امرأة تحدت واقعها وذاع صيتها خارج أرض الوطن.
وقال جميل حمداوي في كتابه “المثقفات والمبدعات الأمازيغيات بمنطقة الريف” عن فاظمة الورياشي إنها “من مواليد فرخانة بالناظور، وهي أخت الدكتور مرزوق الورياشي، أستاذ السوسيولوجيا بجامعة محمد بن عبد الله بفاس. تحملت مسؤولية أسرتها منذ الصغر. بدأت ممارسة الشعر منذ ظهور جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور”.
وأوضح حمداوي أن الورياشي شاركت في عدة مهرجانات أمازيغية إقليمية وجهوية ودولية باعتبارها شاعرة بالفطرة ومولعة بالشعر العربي، وخاصة شعر نزار قباني، كما اهتمت بالمسرح الأمازيغي، وتقنيات الإخراج الدرامي والسينمائي.
واعترافا بعطاءاتها حظيت الورياشي بتكريم سنة 2005 بالناظور، وذلك من قبل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بتنسيق مع جمعية إلماس.
ومن أهم دواوين فاظمة الورياشي الشعرية ديوان “ءيسرمذايي واوار” أو”علمني الكلام”، وقد صدر سنة 1998، ويضم عشرين قصيدة شعرية مكتوبة بالخط اللاتيني من قبل الدكتور حسن بنعقية.
واسترسل محمد الزياني قائلا إن فاظمة تقرأ كثيرا القصص والرواية لدى كبار هذا الصنف الأدبي، كما أبهرها ما جاء على لسان أبطال وشخصيات بعض روايات كارسيا ماركيز، إذ ظلت أثناء مقامها بالحسيمة تردد تلك الحكم والمواقف الإنسانية البليغة التي تستشفها من أعمال أدبية ذائعة الصيت.
وأكد الزياني أنه رغم حرمان الورياشي من متابعة تعليمها، تمكنت من بناء شخصيتها الثقافية  في بيئة محافظة ذات سيادة رجولية، إلا أنها كانت محظوظة نظرا لانتمائها إلى وسط عائلي ذي مكانة ثقافية وعلمية راسخة فشقيقها كان أستاذها الحقيقي وملهمها، الذي تربت في حضنه تربية ثقافية متفتحة، إضافة إلى أفراد من عائلة كانت لهم اهتمامات ومؤلفات في مجالات كثيرة منها الديني والتاريخي والعلمي.
شاركت فاظمة الورياشي في المهرجان الأول للشعر الأمازيغي سنة 1979 بالناظور من تنظيم جمعية الانطلاقة الثقافية بالناظور، وتقمصت اسما مستعارا للظهور إعلاميا في تلك الفترة وسط أجيال من الشعراء المحليين والوطنيين.
تعرفت فاظمة الورياشي على كبار رموز الحركة الأمازيغية، إذ نسجت علاقات متميزة داخل المغرب وخارجه مع عدة أسماء منها تسديت ياسين وإيدير وآيت مانكلاد،الذي شاركته مهرجانه الغنائي بالحسيمة قبل ثلاث سنوات.
استقرت فاظمة الورياشي، حسب الزياني، بالحسيمة لعدة سنوات قبل أن تغادرها، أخيرا، لتتفرغ للبحث في ثنايا الثقافة الأمازيغية بالريف. ولم تكتف بالعمل على جمع الأمثال الشعبية بالريف وكل ما له علاقة بالحكاية القديمة والحديثة وإنما تعدت ذلك إلى عالم البيئة بشقيها البري والبحري، وذلك بانكبابها على ضبط أسماء أنواع السمك بالأمازيغية في مقارنة بقواميس أخرى خاصة الإسبانية، كما تعمل على جمع لائحة بأسماء النباتات بالأمازيغية.

أمينة كندي

الركراكية بنحيلة… فنانة فرضت اسمها باللون

 اكتشف موهبتها عارض أجنبي  فحظيت بتقدير الغرب..في اسمها طعم الانتماء إلى البيئة الصويرية القحة. “الركراكية” هذا الاسم الذي يحيل إلى نوع من الأسماء التي تميز الثقافة المغربية التي تربط الفرد بالفضاء الجغرافي الذي رأى فيه النور بياء النسب التي تنتهي بها، وإذا حذفنا من اسمها هذه الياء تتبقى عبارة “ركراكة” التي لا تحيل على مكان جغرافي محدد، بقدر ما تحيل على طائفة دينية ومذهبية ترعرعت بإقليم الصويرة والمناطق المحيطة بها لها خلال حقبة زمنية معينة، جعلت أهلها، في ما بعد، يشرّفون مواليدهم بنسبتهم إليها. والفنانة التشكيلية الراحلة “الركراكية بنحيلة” واحدة من الأسماء التي تعلن عن انتمائها لهذه البيئة المشبعة بنوع من الثقافة الدينية والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي سادت داخل أسوار المدينة العتيقة للصويرة وتجاورت إلى جانب ثقافات وأديان أخرى تعايشت في نوع من الوئام الفطري على حب التسامح مع الآخر.

ووسط هذا المجال رأت الركراكية النور بداية الأربعينات، ولم تتأت لها متابعة تعليمها الأولي لا لشيء سوى لأنها أنثى كانت تقاليد المجتمع المحافظ ترى أن لا ضرورة لتمدرسها.
ولم تقف مأساة الطفلة الركراكية عند الحرمان من التعليم، وهو الأمر الذي كان يسري على نظيراتها من الفتيات، بل وجدت نفسها مرغمة على الزواج في سن مبكرة لا تملك فيها من أمر تحديد مصيرها شيئا، فاضطرت إلى التأقلم مع هذا الوضع باعتبارها ربة بيت في عمر الزهور.
انتقلت الركراكية رفقة زوجها إلى أكادير نهاية الخمسينات وبداية الستينات، ومن الطرائف المرتبطة بهذه المرحلة والتي يرويها القاص والإعلامي أحمد بومعيز، أنها نجت بأعجوبة من الزلزال الذي ضرب المدينة سنة 1961، إذ كانت يومها توجد بسينما “السلام” لحظة الكارثة.
إلا أن زواج الركراكية الأول لم يكتب له النجاح فعادت إلى الصويرة بداية السبعينات، ودخلت في تجربة زواج ثانية لكن هذه المرة بدت على الركراكية مخايل التمرد والرغبة في تجاوز الوضع الذي أريد لها أن تظل حبيسته، فاكتشفت في نفسها ولعا فطريا بالألوان والأصباغ فكانت تعمد، خلسة، إلى اقتناء هذه المواد وتشتغل بها في منزلها مشكلة بذلك أشكالا تعبر بها عما يعتمل في داخلها من مشاعر وخيالات متناقضة ورغبة في الخروج إلى العلن.
فاشتغلت في البداية على رسومات تجسد فيها الحياة الحميمية للمرأة الصويرية مركزة على الوجوه التي كانت أصلا متوارية خلف زي “الحايك” فضلا عن أشكال أخرى فطرية كانت ترسمها على أقمشة بيضاء وبأدوات بسيطة.
وظلت الركراكية تمارس “التقية الفنية” طيلة السبعينات والنصف الأول للثمانينات، وفي سنة 1988 ستنظم معرضها التشكيلي الأول بعد أن اكتشفها عارض أجنبي يدعى “فريديرك دامغارد” الذي أنشأ رواقا له بالصويرة.
كما تمكنت بنحيلة من تعلم الكتابة والقراءة في هذه الفترة بطريقة عصامية، بل صارت في ما بعد تجيد حتى اللغة الألمانية وبعض المفردات من لغات أجنبية أخرى كانت تتواصل بها مع المهتمين بلوحاتها التي عرضتها في مدن مختلفة بالمغرب وخارجه، خاصة في ألمانيا حيث لقيت اهتماما خاصا من طرق نقاد الفن التشكيلي.
لكن النجاح الذي صادفته الركراكية بنحيلة فنانة تشكيلية فطرية، لم يكن ليدرأ عنها المشاكل الاجتماعية والمادية خاصة بعد أن وجدت نفسها، بسبب استغلال البعض لها، عاجزة عن أداء ثمن كراء منزلها لولا تضامن بعض الهيآت الجمعوية معها.
واضطرت بنحيلة خلال السنوات الأخيرة من عمرها إلى مغادرة الصويرة بفعل إصابتها بداء الربو الذي كانت وطأته تشتد عليها بسبب الرطوبة السائدة في مدينة الرياح، وأقامت بضواحيها قبل أن تدركها يد المنون شهر نونبر 2009، وتظل سيرتها وتجربتها نموذجا للمرأة التي تحدت واقعها وفرضت اسمها، وهي السيرة التي تناولها شريط تلفزيوني بعنوان “الركراكية” من توقيع المخرج كمال كمال وبطولة الممثلة فاطمة خير التي جسدت دور الفنانة التشكيلية الراحلة.

عزيز المجدوب

 

مشاركة