الرئيسية اراء ومواقف تفاهة عالمنا الرقمي

تفاهة عالمنا الرقمي

كتبه كتب في 11 سبتمبر 2021 - 20:07

عبير الشارف

أصبح الاستهلاك الأول للعقل العربي الأفكار التافهة التي أضحى إعلامنا موجها لها بمبالغة في الآونة الأخيرة. خصصت لها الصفحات الأولى و  العناوين الكبرى المجودة صياغتها بما يجذب اهتمامات القارئ، ليقبل عليها و يتهافت بشكل فظيع على محتوياتها من فضائح و قصص اتهام و أخبار المشاهير و غيرهم. فسواء أ كانت حقيقة أم إشاعة، فإنها تباع بأكبر  الأعداد  و تحصد كثيرا من التعاليق و الإعجابات و المشاهدات ، مما يحقق لأصحابها الربح المادي والشهرة، بعيدا كل البعد عن الأخلاق و الآداب العامة، و ضوابط الممارسة الصحافية ووظائف الرسالة الإعلامية وأهدافها.

باتت مجتمعاتنا العربية تحت وقع صدمة تطور التكنولوجيا، إذ لا هي قادرة على مواكبتها و تطويرها، و لا هي متمكنة منها لتحدد كيفيات استخدامها، و استغلالها فيما يفيد و ينفع. خير دليل ما آلت إليه مختلف منصات التواصل الإجتماعي في السنوات الأخيرة، قبيل “واتساب” و”فيسبوك” و “أنستغرام” و”تيك توك” من قاعات لعرض التفاهة بنشر ما جادت به كاميرا الهواتف من صور و فيديوهات، و التعبير دون علم و دون حدود في ظل انعدام الرقابة التي جعلت العالم الرقمي فضاء يقال فيه كل شيء و يفعل فيه كل شيء، بعدما كان مجرد وسيلة للتواصل و التعارف… أما بالنسبة لمنصة “اليوتوب” فالكل فيها في سباق لاعتلاء واستحواذ المركز الأول في قائمة “الطوندونس”.

جاد هذا الأخير مؤخراً بمجموعة فيديوهات لا تعدو أن تكون ترفيهية لكن بشكل مبالغ فيه،  تطمح إلى الربح بتسويق التفاهة و بفتح البيوت و خصوصياتها نحو الفضاء العام و المنافسة بذلك فيما لا يصلح للمنافسة.. فنجد أن الميكروفون أصبح متاحا لكل شخص يطلبه دون شرط لحصد الشهرة و النجومية، بعدما كانتا تحتاجان لعلم كثير و موهبة كبيرة و حظ عظيم.

يقول الكاتب النمساوي كارل كراوس: «هوت شمس الثقافة أرضا حتى أصبح الأقزام أنفسهم يظهرون بمظهر العمالقة» وإلى هذا المعنى يشير الفيلسوف الكندي آلان دونوا في كتابه “نظام التفاهة” : “… التافهون كثر من حولنا،  يطلون من كل مكان، ويدخلون البيوت عنوة وما باليد من حيلة لطردهم..”.

أصبحت المواقع الالكترونية منابر للعبث و التفاهة، مما جعل شعوبنا من أطفال، شباب و حتى كبار يتهافتون عليها و تساهم –هي- في استحمارهم بإشباع وعيهم الفكري  بأعمال توصف بالتافهة الرخيصة عوض الفكر و القراءة و الوعي و المعرفة، يرمز أصحابها و الأخطر من ذلك أنهم أصبحوا لنا قدوة بفعل جنوني أو بفضيحة اقترفوها أو حتى عمل غبي يستحسنونه للسخرية منه و نشره على نطاق أوسع؛

فكيف لنا –كجيل اليوم و الغد و مربيه- أن نقضي على نفس تفاهة و سخرية و استخفاف كل عام، على الإهانة و العنف و التحرش و الاستفزاز و التنمر، على شهرة الحمقى و على الرموز التي اصطنعتها مجتماعتنا في عالم التيه و التشتت؟ هل فعلا انتهت المواضيع التي تستحق الاهتمام، ليجد المجتمع نفسه في دوامة من التفاهة؟ كيف أصبحنا لا نميز بين الصواب و غيره؟ هل نست السلطة الرابعة دورا مهما من أدوارها في السمو بالوعي و الفكر العام؟

هو الوقت لنضع حدا لكل هذا بتزكية أنفسنا و الاهتمام بالمحتويات النافعة، بعيدا عن كل الفضائح و المعلومات التافهة السخيفة التي تساهم في التضليل و الاستحمار و تعليب فكر الفرد. دعونا لا نحدد لنا أرقاما تعكس قيمتنا و نجاحنا و الأفراد من حولنا بعدد الإعجابات و المتابعين. دعونا لا نجعل من الحمقى مشاهير و أن نحارب كل ما يساعد لتقدمهم.  

يجيب اَلان دونو في هذا الصدد على أن جوهر كفاءة الشخص التافه هو قدرته على التعرف على شخصٍ تافهٍ آخر. معاً، يدعمون بعضهم البعض، و من ثمة يرفع كل منهم الآخر.

فلنمتهم إذن بالتجاهل كي لا يتضخم عددهم و لا يطغوا، بعدما لم يعد لهم أخلاق و قيم يحتكمون إليها، فكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أميتوا الباطل بالسكوت عنه”. ف”تبا لزمن انحنى احتراما للتافهين، و دهس بعجلاته المفكرين و المبدعين و منتجي الأفكار العميقة و الآراء الرصينة و مؤسسي النقاشات الحقيقية”.

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *