الرئيسية اراء ومواقف سيكولوجية الطالب “الغشاش”

سيكولوجية الطالب “الغشاش”

كتبه كتب في 1 يوليو 2021 - 01:35

* د. يسين العمري

توطئة لا بدّ منها:

نبدأ كالعادة بتعريف المصطلحات ليسهل تبسيط الفهم لدى القارئ الكريم، فكلمة سيكولوجية تعني ببساطة الوظائف العقلية والسلوك، وما يستتبع ذلك من رصد الخبرات المبكّرة، والغرائز والدوافع والتعلّم البسيط والسلوك الاجتماعي، أمّا في الامتحان فيعني الإتيان بتصرفات سواء مقصودة أو لا، لتحسين وضع الامتحان، و الحصول على نقط جيّدة و تقيم عالٍ دون وجه حقّ، فالامتحان هو التقييم الذي يضعه الأستاذ لتقييم طلبته وتلاميذه، وهو الذي يبيّن مستوى الطالب وقدراته ومؤهلاته، وبالتالي فالغشّ لا يظهر المستوى الحقيقي للطالب، ولا يتنعكس على من غشّ فقط بحيث يعطيه نقطة لا يستحقّها، بل هو يهدر فرصة طالب آخر اعتمد على نفسه قد يحصل على نقطة أدنى، وهو يخدع الأستاذ كذلك حيث يعتقد أنّ التلميذ أو الطالب الغشاش شخص نجيب ومجتهد وهو ليس كذلك، وتجدر الإشارة أنّ الغشّ لا سنّ له ولا طبقة اجتماعية، فالغشّاشون قد ينتمون لمختلف الأعمار ومختلف الشرائح الاجتماعية. لهذا سأحاول في هذا المقال توضيح أنّ الغشّ في الامتحان سلوك مرضي غير سوي وغير عادي.

أما عن سبب اختيار الموضوع، فقد جاء لعدّة اعتبارات منها الذاتي ومنها الموضوعي، فعدّة امتحانات في مستويات مختلفة باتت على الأبواب، وسأحاول التطرّق لسيكولوجية الغشاشي، انطلاقاً من أمر لم ولن أنساه طيلة حياتي، ويتعلّق الأمر بذلك النقاش المثير، الذي حضرته وشاركت فيه، ذات يوم وأنا أستقلّ وسيلة نقل عمومية، بين فتاتين بمناسبة امتحانات التكوين المهني، فكانت إحداهما فرحة لدرجة لا توصف لأنّها تمكّنت من “النقيل”، في حين بدت صاحبتها غاضبة جدّاً وصبّت جامّ غضبها على الأستاذ الذي قام بدور الحراسة القسم، فوصفته بأنّه “معقّد” ولا يحبّ الخير للنّاس، بل لقد دعت الله أن ينتقم منه ومن أولاده، وطبعاً هذا الحوار استفزّني لدرجة لم يمكنني معها السكوت، فاستدرت نحو الفتاة التي تمكّنت من الغشّ، ووجّهت لها سؤالاً مباشراً: هل أنت راضية عن نفسك؟ هل لو علم أبواك أنّ ابنتهما غشّاشة هل سيفتخران بك؟ ثمّ اعتذرت عن سؤالي، طبعاً بقيت الفتاة صامتة لبرهة، قبل أن تأخذها العزّة بالإثم وتتناول أقراص الجرأة والشجاعة الوهميتين مخلوطتان ببعض الوقاحة في الرّدّ: الغشّ طبعاً أمر ليس جيداً، لكن الكلّ يغشّ، لست وحدي من يفعل ذلك، وكما يقول المثل “من نقل انتقل ومن اعتمد على نفسه بقي في قسمه”، ثمّ ابتسمت وهي تظنّ أنّها أنهت السجال وانتصرت عليّ بالضربة القاضية، قلت لها حسناً هل سندفن جميعاً في نفس القبر وسنحاسب حساباً جماعياً، أو أنّ كل إنسان سيدفن في قبره وسيحاسَبُ على أفعاله هو بشكل فردي؟ أجابت بل بشكل فردي، قلت لها وإذن لا تحتجّي عليّ بقول الكلّ يغشّ، فالأمر أولا خطأ، لأنّه ليس الكلّ يغشّ، قالت فالأغلبية تغشّ، قلت ولا الأغلبية، اللهم إلا إذا كان لديك إحصاء يؤكّد صحّة قولك؟

هنا تناولت الفتاة الأخرى الكلمة فقالت لي حسناً هل سبق لك أن كنت تلميذاً أو طالباً؟ قلت بلى، فقالت لي فأسألك بربّك واصدقني القول ألم يسبق لك أن قمت بالغشّ؟ أم أنّك تمارس الوعظ فقط، ما يهمّني هو أن أنجح بتفوّق وليذهب الجميع من بعدي إلى الجحيم؟ أجبتها انظري أنا لست الشخص المثالي في كلّ الأمور طبعاً، وأنا دوماً أعرّف نفسي بأنني مسلم عاصي، وقد اقترفت من الأمور السيئة ما اقترفت، وأرجو من الله أن يغفرها لي، لكن في هذه النقطة بالذات، جوابي لك هو نعم يا سيدتي أنا لم يسبق لي أن قمت بالغشّ في الامتحان مطلقاً، إن عرفت الجواب أجيب وإلا فأترك الورقة فارغة وأسلّمها وأنسحب، وأذهب لأحضّر مرّة أخرى، وللعلم من يغشّ هو كاللصّ يسرق شيئاً لا يملكه. قالت لي أتقسم بالله على ذلك، قلت ولو أنّ المقام لا يستدعي ذلك، لكن أقسم بالله قسماً أحاسب عليه يوم القيامة ما قمت بالغشّ في الامتحانات ولا حتى في الفروض العادية مطلقاً، بقيت التلميذة وصديقتها تحدّقان بي بعض الوقت وكأنّ الدهشة أخذتهما أو مالتا إلى الريب والشك وعدم التّصديق، فقالت لي من سألتني لئن صدقتنا القول فإنّك تمثّل قلّة قليلة، وهذا التكرار لفكرة أنّ من لا يغشّون في الامتحان عددهم قليل، دليل واضح وملموس على أنّهما تُعانيان من عقدة الإنكار، وتعني في علم النفس المرضي أنّ المصاب بها يرفض الاعتراف بالواقع ويصرّ على أنّ ما يراه فقط هو الحقيقة، وذلك لتجنّب الحقيقة غير المريحة له نفسياً، والإنكار ليس قراراً واعياً ولا عقلانياً، وإنّما في تقديري هو من باب رمتني بدائها وانسلّت، فالعاهرة مثلاً ترى وجود نساء شريفات أمراً قبيحاً في نظرها، لأنّه يذكّرها دوماً بالمستنقع الذي وقعت فيه، ولأنّها تودّ أن ترى كلّ النساء عاهرات، وقد ختمت تلك المناقشة العجيبة بسؤال الفتاتين إذا ما قدّر لهما أن تكونا أمّين مستقبلاً، فكيف يستقيم أن تربّيان أبنائهما تربية سليمة، وتحرصان على أن تكونا قدوتان ونموذجان يحتذيان لأبنائهما، وتنشئان صغارهما تنشئة اجتماعية قويمة وهما غشّاشتان؟ والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً حيث أنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

الأمر في تقديري هو أنّ الغشّ تصرف غير سوي وغير عادي لأنّه ببساطة لا يطابق المعايير (Normes) والقيم الاجتماعية (Valeurs)، فدينياً الغشّ محرّم لدرجة أنّه يخرج الغشّاش من جماعة المسلمين، قال رسول الله صلى الله عيه وسلّم: “من غشّنا فليس منّا”، والغشّ مجرّم قانوناً بنصّ الظهير الشريف رقم 1.16.126 الصادر في25 غشت 2016 بتنفيذ القانون رقم 02.13 المتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية، وعليه أين الخلل؟

وفي اعتقادي الخلل في التربية والتنشئة الاجتماعية، لأنّ الآباء والأساتذة ملزمون بمعرفة المستويات الحقيقية للتلاميذ والطلبة، إذ لا يعقل أن أعلم أنّ ابني أو طالباً عندي مستواه ضعيف في مادّة ما، ومع ذلك ينال فيها نقطة جيّدة، على طول عليك أن تتّهمه وتشكّ فيه، الطالب الغشّاش بالضرورة هو إنسان فاشل، ودليل فشله هو لجوئه إلى الغشّ، ولو كان متمكّناً من دروسه ما اضطرّ للغشّ، كما أنّه محدود الآفاق وطريقة تسييره لحياته المستقبلية ستكون محلّ شكّ كبير أيضاً، فالمعلوم أنّ الحياة مطبّات، وليس بالضرورة سننجح في اجتيازها جميعها بنجاح، فالفشل في حدّ ذاته تجربة ودرس للمستقبل لاستخلاص العبرة منه والانطلاق من جديد، وهكذا فالتلميذ أو الطالب الذي يغشّ، لو بذل مجهوده في الدراسة لفلح، وحتى لو فشل، وأعاد الكرّة بنوع من الالتزام والجدّية والانضباط في الدروس فسينجح، لكن ماذا عمّن أصبح الغشّ دينه ودَيْدَنَهُ، هل سيغشّ في كلّ امتحانات الحياة؟ هل سيغشّ في حياته الزوجية؟ هل سيغشّ في تربية أبنائه؟ هل سيغشّ في مهنته؟

ثمّ إنّ الغشاش ليس مستنكراً كسلوك فردي خاصّ بصاحبه فقط، بل الكارثة والطّامة الكبرى أنّه قد يكون وبالاً على مجتمعه بأكمله، فكم من مريض مات على يد طبيب غشّاش، نسي دروسه بمجرد نيل الشهادة الجامعية، وكم من موكِّل خسر القضية أمام خصمه لأنّ محاميه غشّاش، وكم من قاضٍ ظلم لأنّه غشاش، وكم من صحفي سوّق الوهم ونشر ثقافة التفاهة والسفه والسفالة لأنّه غشاش… وكم وكم وكم وكم…. فالغشّ وإن كان حقا سلوكاً فردياً لكن آثاره على المجتمع وخيمة، ولا بدّ من الضرب بيد من حديد على أيدي هؤلاء، قديماً وأنا طالب في كلية الحقوق بفاس، كنت أسمع الطلبة وهم يتحدّثون تجد الواحد منهم يفكّر ألف مرّة قبل أن تراوده فكرة الغشّ بالامتحانات، فهو يعلم علم اليقين أنّه لو ضُبِطَ، فبانتظاره تقرير غليظ قد يعرّضه للفصل خمس سنوات، بل وأنّ أوّل من سيتصدّى للغشّاش هم الطلبة أنفسهم، وقد عاينتُ حالة مماثلة، وتعرّضت الطالبة التي حاولت الغشّ للتشهير بها وأصبحت تمشي في الكلية كأنّها شاةٌ جرباء، حتى انقطعت عن الحضور.

أمّا الآن فيكتفي مراقب الامتحان بالتنبيه شفوياً أو في أقصى الحالات ينزع من الغشاش الورقة أو لربّما يغضّ الطرف عنه “عين ميكة”، وهذا أمر غير مقبول بتاتاً، لأنّ فيه ضرب تكافؤ الفرص في الصميم، ففي قاعة مجاورة قد يكون المراقب أكثر جدّية وذو ضمير فيمنع الغشّ، وهنا حالة تضارب فاضح في المصالح.

إنّ دور التنشئة الاجتماعية لا مناص منه، فكما حكم علينا بمشاهدة أعمال فنية أقلّ من الصفر في مواضيع تافهة جدا، لم لا يتناول الفنّ ظاهرة الغشّ في الامتحانات بأعمال فنية، لماذا الصحافة لا تخصّص يوماً في السنة للتعريف بأضرار الغش؟ لماذا الكليات والمعاهد والثانويات وغيرها لا تنظّم كلّ سنة أياماً دراسية عن الغشّ وأضراره وزجره، لماذا لا تدمج مادّة أو تكوينا يتعلّق بالأمر؟ أو على الأقلّ الأساتذة في حصصهم لم لا يتناولون الأمر مع طلبتهم؟ لماذا الأسر لا تزرع في عقليات أطفالها منذ السنّ الصغير فكرة أنّ الغشّ أمر قبيح ولا يجوز؟ لماذا أئمّة المساجد لا ينبّهون لخطورة الظاهرة في خطب الجمعة؟ لماذا المثقفون باعتبارهم ضمير الأمم والشعوب لا يتطرقون للموضوع؟ المقاربة القانونية والزجرية وحدها لا تكفي.

الغشّ موجود ويتنامى، وعلى الكلّ الانخراط في مقاومة هذا المدّ، وإلا تكرّرت حالة الفتاتين اللتان حاورتهما عشرات الآلاف من المرات إن لم تكن أصلا كذلك في الواقع، وبالغشّ لن نبني وطناً ولا مجتمعاً ولا أفراداً. سأترك للقاريء الكريم نفسه تحليل سيكولوجية الإنسان الغشاش، بعد أن حاولت أن أقدّم له بعض مفاتيح شخصيته من خلال طريقة تفكيره.

باحث في دراسات الدين والسياسة*

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *