الرئيسية اراء ومواقف عالم ما بعد الكورونا

عالم ما بعد الكورونا

كتبه كتب في 11 نوفمبر 2020 - 17:37

عبير الشارف

عالم ما بعد الكورونا

بين يوم و ليلة، هجر سكان المدن الشوارع و الميادين و توقفوا عن الحركة. أغلقت الدول حدودها، عطلت المدارس و الجامعات و مؤسسات العمل، توقفت مختلف الأنشطة، و فرض حظر التجوال بشكل جزئي أو كلي- حسب الدول- ليبدأ الناس حجرا منزليا صحيا لأسابيع و أشهر دون مغادرة منازلهم.

البشرية اليوم أسيرة جائحة كورونا.

ظننا كما ظن العالم بادئ الأمر، أن التزامنا بالمنازل و عدم الاختلاط بالخارج سيكون أريح و أسهل، غير أنه ما كان لا أريح و لا أسهل كما يبدو. فصعب أن تكون شخصا فعالا نشيطا ثم تصير كل حياتك مقتصرة على المنزل و تصير حبيسا وراء شاشة حاسوب -إن وجدت-، صحيح أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يستطيع أن يعيش إلا مع الآخرين و بالتواصل معهم. لكن، هل يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي أن تغني عن التواصل المباشر بين بني البشر؟

مع توقف أكثر من مليار و نصف مليار طالب حول العالم للذهاب للمدارس و الجامعات، و عدم إمكانية منطقتنا توفير تعليم إلكتروني فعال و ذي جودة، فقد تتأثر القدرات المعرفية و الحركية لدى الملايين الذين قد حرموا من التعلم عن بعد، و بذلك يختفي دور المعلم التربوي باعتباره قدوة، و يختفي معه التعليم الحركي كلغة للتواصل، و تختفي كذلك روح التنافس بين المتعلمين. صحيح أن الدور الرئيس يلعبه الأهل، غير أنهم لا يملكون سوى الحب لا البيداغوجية و الكيفية. و هذا يظل غير كافيا. فالحمل الآن أصبح يقع على عاتق الطالب نفسه و وحده في فهم و استيعاب مختلف المواد الدراسية.

 لكن، هل حقا يمتاز طلبتنا بوعي و ضمير حي و قدرة –في هذه الأوضاع- على تتبع مختلف المواد و المشاركة في حلقات النقاش المباشرة و غير المباشر بين الطالب و الأستاذ؟ ..لا أظن.

مع توقف عمل مختلف الأنشطة الاقتصادية التي تعتبر مدخل رزق و دخل للعديد من الأفراد من متاجر ألبسة و مطاعم و مقاهي، صالونات حلاقة و غيرها، خيم الفقر على ملايين الأسر، مما جعلها  مهددة بالفقر و الجوع.

الملاحظ أن المناخ العام بإصاباته و أمواته المأساوية  التي تجاوزت عشرات الآلاف أثر على الحالة النفسية و العقلية لمختلف الفئات الاجتماعية و العمرية، و بدرجات متفاوتة: خوف، قلق، توتر، إحباط وغضب… خير دليل: التهافت و الشره لاقتناء المواد الغذائية و السلاح بداية الجائحة،  تزايد العنف الأسري كسبيل للتنفيس، و غيره. و كل هذا بالطبع، راجع لعدة أسباب نذكر منها طبيعة الشخصية ، الحالة المادية  (بعد فقد العديد من الأفراد لدخلهم)، الحالة الصحية النفسية (الاكتئاب لفقدان الحرية مثلا)، الوازع الديني للمجتمعات (اطمئنان لدى الإيمان بالقضاء و القدر مثلا) و غيرها.

تعلن الكثير من الدول عودتها للحياة بشكل تدريجي. فما هو يا ترى شكل حياة ما بعد الكورونا التي أرعبت البشرية و جعلت من نهارها قلقا و من ليلها أرقا؟

صحيح أن الخوف من الإصابة بالفيروس و من الموت بهاته الطريقة المأساوية طبيعي جدا و متوقع منا، ككائنات متشبتة بالحياة، و لكننا بالمقابل أيضا كائنات تتأقلم مع الظروف و تتكيف مع الواقع، و تتعايش على مدى عصور مع مختلف الأوبئة.

صحيح أيضا أن عالم الغد لا و لن يشبه عالم اليوم. عالم جديد أتوقع أن يعيد ترتيب أولوياته، سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و في غيرها من المجالات بالنسبة للإنسانية. و أول ما يتوجب أن يوضع في المراتب الأولى العلماء و العلوم و تطويرها، فما وجد في صفه سواها. عالم يقدر التكنلوجيا أكثر، لاستغلاله لها في العمل الجاد و تقريب الناس إليه بواسطتها بتباعد، عالم متضامن يدعو للتضامن، بعدما وجدت مجتمعاتنا العربية الهبة التضامنية التي خففت من وقع الجائحة، على سبيل المثال نذكر الأعمال الخيرية لمختلف الجمعيات و المؤسسات و الأفراد على الصعيد العالمي، علاقات الجوار و الصداقة  و التكافل الاجتماعي التي تخفف من وطء الأزمة سواء أكانت مادية أو نفسية. عالم قادر على القيام بأشيائه و بأنشطته داخل البيت دون تنقل و دون تكليف.. عالم واع و مسؤول، قادر على التعايش مع الفيروس، و بهذا أذكر بالدور الهام و الكبير الذي لعبه و يلعبه الإعلام من توعية سواء في بعض الومضات الإشهارية أو في نشرات الإخبار و غيرها. عالم بتكيفه مع الوباء سيعيد للمدرسة دورها التربوي و سيفكر في أساليب جديدة مبتكرة للتعليم عن بعد، و الاستماع و الإرشاد داخل الفضاء التعليمي عن بعد أيضا. هذا من جهة. و من جهة أخرى، يمكن لهذا العالم أن يكون عالما خطيرا، بانتشار المجاعات و الفقر الناتج عن استمرار إغلاق الاقتصاد و منع التجوال حول العالم، عالم يعيش في فوضى عارمة، يفقد أمنه و أمانه إن استمر مغلقا لفترة طويلة. عالم متوتر قلق يشهد ارتفاعا لحالات الانتحار و تغيرا في سلوكاته لبعده عن العالم الخارجي في حالة مدة تزيد عن ستة أشهر حجرا كما أثبتت بعض الدراسات. عالم متوقع أن ينخفض معدل مواليده، و المنخفضة أصلا في أروبا و أمريكا. كما أن تلك المناطق ستكون أقل إغراءا للمهاجرين و السياح كما كانت قبل الجائحة، و هو ما سوف يكون له تبعات اقتصادية حادة في هذه الدول. عالم جاهل لتأثير تعليمه عن بعد و مصير اقتصاده المغلق الغارق في الديون. و غيرها.

العالم بعد الكورونا يشهد مفارقات عدة، بين تفاؤل و تشاؤم. غير أن قدرة الإنسان هي الوحيدة القادرة على خلق الحلول و بناء عالم ما بعد الكورونا. علما أن الإنسانية مرت بأوبئة و جوائح على مر التاريخ و تجاوزت البشرية كل التحديات بطرق مختلفة و استمرت و أخذت في مزيد من التطور و الترقي.

فهل يا ترى سيتجاوزها العالم هذه المرة أيضا بأقل الأضرار الممكنة؟

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.