الرئيسية مجتمع مرثية باذوج: نسر عاش ثلاثة ارباع حياته في السماء

مرثية باذوج: نسر عاش ثلاثة ارباع حياته في السماء

كتبه كتب في 23 أغسطس 2020 - 19:00

منذ مدة وهو يعاني من وعكة صحية ألزمته الفراش ومنعته من العودة لما أحبّ فعله دائما؛ المسرح.. كان منسياً، إلى الأمس القريب، فكل الذين نعوّه هذا الصباح بكلمات مختارة بعناية راعو فيها استحضار التأثير العاطفي؛ كانوا غير مهتمين لتقهقر حالته الصحية يوما بعد يوم، وحيدا، كنسر عاش ثلاثة أرباع حياته في السماء، وحين اقترب من الموت، وأحس بساعة الرحيل وقد دنّت، اختار قمة عالية بعيدا عن اختيارات الدجاج، في التوّسل لرب الضيعة على منحها جرعة أمل للحياة، بإلتفاتة متأخرة مكسوّة بثوب الإهانة.. فالنسر له شعاره الخالد في الحياة، إما أن تعيش مُحلقاً فارداً جناحيك عاليا للحرية لا تقبل بأنصّاف الهبات، أو أن تختار الموت بعزّة نفس خوّلتها لك حياتك المُمتدة على أطراف السماء ترفض النزول مهما كانت الطريدة / المساوّمة.. وأغلب من تشدّقوا بحبهم (الكيوبيدي) للرجل؛ وهو في طريقه لمثواه الأخير، غفلوا وضعه الصحي المتردي لما يفوق الشهرين ونيّف، وانخرطوا في مشاركتنا لتفاصيل أيامهم بانتظام وأمانة، وكأننا مربوطين بوعد أن نُعلم الجميع، والعكس قائم أيضاً، بكل تحركاتنا اليومية غير المُجدي، للآخر، معرفتها أصلا.. لن تكون الصور محددا لصداقة مبنيّة على عوالم زرقاء لا تُظهر النوايا المختبئة خلف تلك الوجوه المبتسمة، وهناك مثل يوناني يقول؛ والعُهدة على المترجم : ” كل المبتسمون في صورهم خائنون”.. وبين من فضل السهل للراحة من صخب وسرعة حياة المدينة.. وبين هارب لأمواج البحر يداعبها طلباً للون القمح حين تلفحه نار الفرن الخفيفة .. وبين هذا، وذاك، من فضل قهوة الحي حيث يدخن ويلعن كل شيء عدا نفسه المُتراخية.. بين تفاصيل أيامنا؛ ضاعت سيرة الرجل وركنت لمحطة التغافل المُعتادة..
إلى أن بلغ خبر انتقاله لحيث سنرحل كلنا في يوم ما، لتهرع العيون الجافة في اجترار دمّوع التماسيح.. وتتحمل أزرار الهواتف كمّا من التدوينات المُشيعة للرجل.. تدوينات حملت الكثير من الكذب، لا من حيث المعلومات الواردة فيها، بل من جانب صدق المشاعر المُحشوة فيها؛ فمن يحب شخصاً ما، لا ينساه في الحياة، لا أن ينتظر الموت ليَكذب على روح الراحل..

ولم أكن أعرفه جيدا.. صحيح كان وجها مألوفا على قناة ” الأمازيغية”؛ والتي، كانت، بالمناسبة، واحدة من ثمار معارك الرجل طوال مسيرته الفنيّة المحترمة جدا، من يوم ابتدات من على ركحِ المسرح، إلى أن انتقلت للشاشة الصغيرة والسينما.. ناضل الرجل من أجل أن يكون للغته مِنبرا.. ولفنّه، قناة.. ولهويته؛ مَعبرا مرئيا ومسموعاً يعطي لكينونته اللغوية حضورا مادياً، بعد أن كانت رمزية المسرح الصوت الوحيد لمن تحوّطه المضايقات من كل جهة.. فمن يوم ما خرج الرجل من معقل دار البريهي بخفي حنين بعدما تم رفض أعمال له باللغة الأمازيغية، تابط الراحل الهوية كالجمرة غير متخلٍ عنها مهما توهج شرّر حرارتها.. دفَع بهويته كالصخرة يريد أن يوصلها للقمة لتُكشف للعلن ، ومن ضمن نتائج تلك المكابرة، تم خلق قناة أمازيغية تعيد المجد للموروث الثقافي المُهمّش عن طريق الفن، كأفضل وسيلة وطريقة لنقض الغبار عن المنسيّ / المتناسي.. على الأقل، مع جيله، من محمد أبعمران، والحسين برداوز.. وغيرهم.. وحدث هذا قبل ان تغزو ” السمايل هوليود” القناة، مع جيل انخرط في البحث عن نصيبه من الوزيعة، ولا علاقة له بالفن الأمازيغي الراقي.. وعلى العموم، لست مؤهلا، هنا، للحكم على الأعمال الأمازيغية ما دمّت غير وفيّ لها، لكن، وللأمانة، وانطلاقا من كل ما قرأته عن الرجل، في مسعايّ لتقصي معلومات عنه، من وقت ما بلغني خبر وفاته، أحسست بأنه مدين لنا بدين كبير.. فهو لم يكن فنانا عادياً من اللاّهثين خلف الضوء والنجومية و”البوز”.. فحتى في عز المحنة الصحية، التزم الصمت تفاديا للشفقة والمسّكنة.. عاش حاملاً لقضية ومبدأ .. حمل الفن (الهادف) على كتفيه، وسلك به بعناد قنطرة (الانتقاء) من ضفة الخذلان لضفة الضوء.. كنس تراب التجاهل عن موروث هواياتي لثقافة ضاربة في عمق التاريخ.. أنعش بورصة لغة أوشك نظام التعريّب على قتل جذور حياتها.. الرجل صنع حياته من خلف القضية، لا هو بمساومٍ في زمنٍ ساوم غيره في الثمن.. ولا هو استسلم للبكاء كأطفال المأثم.. ظل يصارع..
في حياته صارع من أجل الهوية.. وفي محنة مرضه..
صارع من أجل الموت بكبرياء..

وتمنيّت لو وهبته الحكمة الربانية بعضا من الوقت الإضافي لأن تزول غمّة الفيروس اللعين؛ فمن هم من عينة أحمد بادوج، لا يستحقون تشيعاً صامتاً للمقبرة .. بل من حقهم علينا..
ضجيج الرومان عند دفن مُقاتل بطل..
رحمة الله عليك..

حسن الحافة

مشاركة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *