شكلت اشعار و أغاني رواد الأغنية المغربية ( بكل روافدها و أطيافها) ينبوعا راسما لملامح الإنسان المغربي و ناطقا باسمه في مختلف أطوار حياته، وعاكسا للحظات معيشه اليومي و مناسباته ، همومه و أفراحه ، آماله و آلامه ، حركاته و سكناته.
ولا شك أن عشاق هذا الفن الأصيل ما زالوا يتذكرون ، من بين روائع الزمن الجميل للأغنية المغربية الناطقة بالعربية ، رائعة الفنان عبد الوهاب الدكالي التي تحمل عنوان ” مانا إلا بشر…” و التي تقول:
مــانــــا إلا بــشــر
عــنــدي قــلــب نــظــر
وانـــت كــلــك خــطـــر
ماتـــبــقـــاشـي تــحــقــق فــيــا
ماتـــقـــول لــي حــتــى كــلــمــة
أأأاانـــــا …..ضــد الــحــكــمــة
وراضـــي بــالــقــســمـــة و مـا كــتــاب
ف الــحــب عــلــي
و لــي عــشــق الــجــمــال
و الــنــخــوة و الـــدلال
إلى مات ءيــمــوت حلال….
مــسكــيــن شــهــيــد …ونــعـــم…نــعــم الــتــضــحــيــة.
تذكرت هذه الاغنية الجميلة في خضم الجدل الدائر على الساحة السياسية هذه الأيام بسبب الفضيحة التي تورط فيها وزير حقوق الانسان ، و تبادر الى ذهني اسم المرحومة ” بشر” التي كانت قيد حياتها مكلفة بتدبير و تسيير شؤون مكتب المحاماة التابع لنفس الوزير، و حاولت إعادة قراءة كلمات و معاني هذه الاغنية ، و تفاجأت بالتشابه الكبير بين أحداث و موضوع الأغنية مع أحداث و موضوع ” فضيحة الوزير” خاصة بعد تداول وثيقة منسوبة الى والد المرحومة يحاول من خلالها تبرئة ذمة الوزير و تحميل مسؤولية عدم التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للضحية ” بشر” .
البداية بعنوان و مقدمة الأغنية في علاقتهما باسم الضحية : “مانا إلا بشر” بمعنى ” أنا لست الا بشرا” ، وهي عبارة توحي بالتواضع والاعتراف بالعجز والضعف أمام الآخر الذي يرمز الى القوة في كل شئ : في المنصب و المال والنسب والانتماء و الجاه و الجمال.هذا التطابق بين عنوان القصيدة واسم المرحومة ” بشر” لا يستبعد أن يكون السيد الوزير قد استوعبه تمام الاستيعاب لكن في الاتجاه المعاكس، و حاول استغلاله طيلة فترة اشتغال المرحومة في مكتبه لفترة تقارب 24 سنة ، مما حدا به الى التنقيص من قيمتها و بالتالي عدم الاكتراث بمسألة التصريح بها لدى صندوق الضمان الاجتماعي كحق من حقوق الأجير.
بعد التقديم تبوح المتحدثة بما يخالج صدرها من مشاعر و أحاسيس جياشة و بقدرتها على تعرف الآخر ومجال سلوكه و أخلاقه، و تصريحها لمخاطبها مباشرة بأنه يشكل خطرا كبيرا ” …و انت كلك خطر”.
رغم اكتشافها لنوايا مخاطبها وخطورته استمرت ” بشر” في تقبل الأمر الواقع رغم مرارته (عدم التصريح بها لدى صندوق الضمان الاجتماعي و هو ما يتنافى مع ابسط الحقوق / أي ضد الحكمة) كما هو حال جل البنات و النساء اللائي يتعرضن باستمرار الى التحرش و الاعتداء و الدوس على حقوقهن، بسبب الفاقة و قصر ذات اليد ، وبالتالي فوضت أمرها لله معلنة إيمانها بالقدر واستعدادها للتضحية و الشهادة، ( راضيا بالقسمة و ما كتاب في الحب عليا / و للي عشق الجمال …..الى مات ءيموت حلال…شهيد…نعم التضحية ). و هنا يمكن استنتاج أن المرحومة ربما وقعت في عشق مشغلها وكانت تمني النفس بالتفاتة منه كالزواج مثلا ، لذلك لم تتسرع في تسجيل نفسها بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لما طلب منها ذلك حسب ما يروج .
بعد وفاة المرحومة، و عوض التكفير عن غلطته بتقديم استقالته أو على الأقل الاعتراف بالخطأ و الاعتذار لكل من أساء اليه ، حرص الوزير على الالتزام و تنفيذ رؤية ” بــشـــر” الواردة في نص الأغنية و هي الشهادة في سبيل الحب. و لتحقيق صفة ” الشهيدة ” للمرحومة ، بادر الوزير ، بتواطؤ مع والد الضحية ” بشر” ، الى تحرير ” بيان إدانة” في يوم له دلالة عميقة في وجدان الحقوقيين و عامة المغاربة الا وهو يوم 20 يونيو الذي يصادف ذكرى الأحداث الأليمة التي وقعت بمدينة الدار البيضاء سنة 1981 و التي ذهب ضحيتها عدد كبير من المواطنين العزل أطلق عليهم وزير الداخلية الأسبق مصطلح ” شهداء الكوميرا” . وهكذا انضاف الى هؤلاء الشهداء ، المرحومة ” بشر” ليكون لدينا مصطلح جديد الا و هو شهداء “CNSS” .
عود على بدء، بسبب قضية “جميلة ” ، و عوض أن يقوم الوزير بتطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ،قام بربط الماضي الأسود( فيما يتعلق بوضعية حقوق الانسان في البلاد) بالحاضر الملطخ بفضائحه و فضائح أمثاله، و هو ما يشكل خطرا حقيقيا كما جاء في بداية الأغنية: كـلـك خـطـر:
- خطر على صورة البلاد الخارجية خاصة عند المنظمات و الهيئات التي تعنى بحقوق الانسان.
- خطر على التماسك الاجتماعي و العلاقة بين العمال و مشغليهم و امكانية نشوب توترات اجتماعية .
- خطر على الدولة و مؤسساتها بسبب عدم احترام الدستور من طرف عضو بالجهاز التنفيذي …
- خطر على الدين الاسلامي الذي يتم تشويهه بسبب فضائح سياسيين يدعون اعتماده مرجعية لمشروعهم السياسي .
قال الله تبارك و تعالى في محكم كتابه : ” أتأمرون الناس بالبر و تنسون انفسكم و انتم تتلون الكتاب افلا تعقلون”
صدق الله العظيم.
محمد فضيل
تيزنيت في: 28/06/2020