الرئيسية اراء ومواقف “الرُّؤْيَا” في السّيَاسة … سياسة !

“الرُّؤْيَا” في السّيَاسة … سياسة !

كتبه كتب في 31 أكتوبر 2012 - 23:19

تُعَرَّفُ “الرُّؤْيا” على أنها : ما يراه الإنسان في منامه، علما أنّه لا وجود لاختلاف بين المعنى اللُّغَوي للمفهوم ومعناه الاصْطِلاحي، بل الاختلاف بين الناس حاصل في بيان كيفية وقوع الرُّؤيا وحقيقتها،وقد تَجَنَّد للدِّفاع عنها كمصدر للمعرفة من احترف “التفكير الديني” أو “التفكير الخرافي /الأسطوري” في حين رفض ممارسي “التأمل الفلسفي” او “البحث العلمي” الإيمان بها. لكن التساؤل الذي نود أن نمتطيه ليس مرتبطا بتفصيل القول في الرؤيا وأقسامها وأنواعها بقدر ما نود ربطها بالفعل السياسي، بما هو ممارسة قائمة على أسس عقلانية و علمية أكثر منها ممارسة خرافية غيبية. ولهذا لابد من رصد الرّؤيا على مَرِّ العصور،مع اختلاف في الشخوص ومضامين الرؤى ، اذ لا يتم البحث في هذه المقالة عن تَأْصِيلٍ لتاريخ الرُّؤى و لا رَصْدٍ للفروق بينها و بين الأحلام.

تعود البدايات الأولى الى رُؤْيا آدم عليه السلام كأول رؤيا بشرية، إذ يُرْوَى في الأثَر أن آدم بعدما اسْتَوْحَشَ في الجنة طلب من الله تعالى أن يخلق له أنِيسًا من جنسه، فلما نام رأى حواء في منامه بشحمها ولحمها، وما أن استيقظ حتى وجدها إلى جانبه لتكون رؤياه محققة. و إذا كانت رؤيا أبو البشرية آدم قد أبْدَلَتْ وَحْشَتَه أُنْساً، فإن  رؤيا نبي الله ابراهيم يُنْظَرُ إليها على أنها “رؤيا منقذة للبشرية”. فبعدما بشر الله تعالى ابراهيم عليه السلام بابنه اسماعيل ،رأى الأب في المنام أنه يذبح إبنه، فلما بزغ الصبح طلب رأي الإبن،فما كان من  الإبن إلا أن كان بارا بوالده، مطيعا لأمره، مخاطبا والده بأن يمضي إلى ما أمره به ربه، بل إنه هدأ من روع الوالد بأن طَمْأَنَهُ بأنه سيجده من الصابرين، و تعتبر لحظة الامتحان حاسمة لأنها فَدَتِ الإبن و من خلاله الإنسانية جمعاء فيما بعد.

و تاتي رؤيا نبي الله يوسف كمدخل للحكم، إذ تعتبر رؤياه من أشهر الرُّؤَى في التاريخ، وهي تروي حسب منطوق الآيات الموجودة في “سورة يوسف” أن الأخير رأى في المنام أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين، و هي رؤية دَالَّة على التطلع لِلْمُلْكِ  والخلافة لأنها تبشر بسيادة يوسف على إخوته الأحد عشر و معهم أبواه الشمس و القمر ،كما تدل على علو شأنه و تمكنه في الأرض، بل إنه أصبح ممن يُؤَوِّلون الرُّؤى و لعل دخوله السجن برفقة الفتيان (القران لم يقدم تفاصيل عنهما) و تفسيره لما رأياه في المنام من أن أحدهما سيعفو عنه الملك و سيخرج من السجن و يعود لخدمة الملك ساقيا يقدم له الخمر،و أما الثاني فهو مصلوب يحمل فوق رأسه خُبْزا تأكل الطير منه. بل إن نبي الله يوسف لم يتوقف عند حدود رؤياه للوصول الى المُلْكِ بل لقد اشتهر بتأويله لرؤيا الملك الخاصة بالسبع سنوات العجاف اللائي يتبعهن سبع سنوات من الرفاه و الخير …

تأتي رؤى الأنبياء اذن نتيجة حرصهم وانشغالهم بتحقيق مآرب دنيوية بمداخل دينية، لكن رؤى السياسيين يصعب عزلها عن ممارساتهم السياسية، و في هذا الإطار تدخل رؤيا الخليفة المأمون لأرسطو، وهي رؤيا شكلت مدخلا لتحديث الدولة و عقلنة أسسها ،خصوصا وأن المأمون كان معتزليا، بل إنها شكلت تحولا “راديكاليا”في بنية العقل والفعل السياسيين،لأنها أبانت عن حاجة المأمون ومن معه إلى ضرورة إجراء تحول في النظام السياسي من نظام جمودي إلى نظام يعتمد العقل (كما جسد ذلك المعتزلة الذين مهدوا الطريق أمام الفلسفة الإسلامية).

محتوى الرؤيا ” أن المأمون رأى في منامه كأن رجلا أبيض اللون مشربا حمرة واسع الجبهة مقرون الحاجب أجلح الرأس ،أشهل العينين ، حسن الشمائل ، جالس على سريره ، قال له  المأمون : كأني بين يديه قد مُلِئْتُ هيبة . فقلت من أنت ؟ قال : أنا أرسطو طاليس .فمررت به وقلت : أيها الحكيم أسألك؟ قال : سل . قلت : ما الحُسْن ؟ قال : ما حَسُنَ في العقل . قلت : ثم ماذا؟ قال : ما حَسُنَ في الشَّرْعِ . قلت : ثم ماذا؟ قال : ما حَسُنَ عند الجمهور… “. لتكون بذلك رؤيا المأمون ذريعة لترجمة الكتب، وخصوصا أمهات الكتب الفلسفية اليونانية ،وعلى رأسها كتب ارسطو الذي للإشارة بلغت الفلسفة اليونانية معه ذروتها، بل إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد كتب المأمون الى ملك الروم يطلبه الإذن للتخلص من مختارات العلوم القديمة المخزونة و المدخرة ببلد الروم فوافق على  ذلك بعدما كان رافضا. فهل يمكن القول الآن أن المأمون  لم يمارس السياسة عندما حشد حاشيته ليحكي لهم رؤياه؟

أكيد أن الأمر ليس كما يظهر للعوام، فباستحضار  الشروط التاريخية يتضح ان “الإمبراطورية العباسية” قد التهمت العديد من الحضارات و التي اختلفت طرق اقناعها بضرورة الانخراط في المشروع الحضاري و الثقافي للعباسيين لهذا ارتأت “الطبقة السياسية” انذاك الانفتاح على الجدل كطريق للإقناع، وهذا ما سهلته الفلسفة بعد الانفتاح عليها عن طريق الترجمة.

اذا كان وضع المأمون اقتضى منه ان يُعْمِلَ الرُّؤْيا كمدخل لتحقيق التغيير في الحياة الاجتماعية والسياسية،فان رؤيا عبد السلام ياسين _ رغم اختلاف وضع الرجلين _ اتخذت لها هدفا سياسيا منسجما و مرجعية الرجل الدينية  الرامية لتحقيق “القومة” الغيبية والتي ظلت كذلك لاستحالة تحققها في ظل الشروط التاريخية المعاصرة، و لتآكل الطرح الصوفي الذي أصبح بديلا عند البسطاء عن الأضرحة والأولياء…إنها رؤيا من أجل تحول نحو معتقد صوفي مع “تديين” و “أسلمة” الحداثة و الديمقراطية و السياسة عموما، إنها رؤيا تكشف حرص مرشد جماعة العدل و الاحسان السيد عبد السلام ياسين و مريديه على “تعليب العقل السياسي” وأدلجته ضمن ما بات يعرف ب”الاسلام السياسي” .

لقد ادعى عبد السلام ياسين بأنه يطمح لأن يزاحم من يطلعون على اللوح المحفوظ من كبار الصوفية، كما أراد أن يبلغ مداركهم وقد قرر ذلك في كتابه “تنوير المؤمنات” الذي كتبه توجيها لمريدات العدل والإحسان حيث يقول: “مالي أتغدى من فتات موائد الكرام ولا أبحث كما بحثوا لأزاحم بالركب كبار الصوفية كالغزالي ينظرون إلى اللوح المحفوظ فما مقامي أنا في ظلمة الجهل وابن تيمية يقرأ في اللوح المحفوظ وينبىء بغيب المستقبل” )هذا من كتاب تنوير المؤمنات لعبد سلام ياسين الطبعة الأولى 1996م.).

الآن وبعدما وقعت هدنة في سياسة الرؤى طلعت علينا مجلة “Jeune Afrique  ” في عددها 2702 الصادر من 21 اكتوبر الى غاية 27 منه  2012 ، وقد خصصت حوارا مع السيد حميد شباط بمناسبة انتخابه أمينا عاما ل”حزب الاستقلال” بتاريخ 23 شتنبر 2012 ،و بعد تأكيده على أن إصلاح المؤسسات مدخله هو إصلاح التنظيمات الحزبية، وفي معرض حديثه باح الزعيم الاستقلالي شباط بأن دخوله الى معترك الترشح للأمانة العامة لحزب الاستقلال دافعه هو رؤيته في المنام لمؤسس الحزب علال الفاسي. زيارة  الأب الروحي للاستقلاليين للسيد حميد شباط لم تكن زيارة صامتة بل لقد مُرِّرَتْ خلالها وصية ضد الابن عبد الواحد الفاسي ،و هي وصية تحمل عتابا للابن لأنه يسعى الى تحويل “حزب المغاربة” الى “حزب عائلي” ،كما تحمل دعوة “للعلامة” شباط بان يصحح المسار ،و هو الذي سبق أن أعلن أن مدينة “فاس ” (التي يتراس مجلسها الجماعي) ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز.

إن الغرابة لا تكمن في رؤيا حميد شباط بقدر ما أنها تبدو عندما يُسْتَحْضَرُ ،أن لحظة صراع  السيد حميد شباط مع السيد عبد الواحد الفاسي أصبحت _ بهذا المعنى _ لحظة صراع أشخاص لا أفكار، لأن حالة الصراع أبدت أن ابن علال الفاسي أصبح كبش فداء حزب الاستقلال بما يعني أن سقوطه معناه قيام الحزب وتجدده، إن التقاط مختلف محطات الصراع جعلت البعض يعتقد أن حزب الاستقلال قد يجدد جلدته و يتخلى عن بعض من “تقليدانيته”، إلا أن تكريس التفوق باعتماد الرؤيا جعلت الاعتقاد راسخا بأن شباط سيعمل على إعادة انتاج نفس العقلية السياسية التي رسخ لها سابقوه على رأس الأمانة العامة للحزب. ف”الرؤيا الشباطية” تكشف تمأسس الإطار الحزبي الاستقلالي(كما هو حال جل الأحزاب الأخرى) على قيم مغرقة في المحافظة، فهل إعمال الرؤيا في مثل هذه المناسبات يليق بسياسي يُرْتَقَبُ منه أن يساهم من موقعه في تحديث البلاد و عقلنة الفعل السياسي، أم  ان قدر حزب الاستقلال رهين باستمرارية القيم السياسية البالية التي تستهزئ بذكاء المغاربة.  و هنا نفتح قوسا لنؤكد على ازدواجية شخصية السياسي _ المغربي نموذجا _  فهو يؤمن بالممارسة السياسية كوسيلة لتحقيق الاستقرار و الأمن و العدالة الاجتماعية متخذا من محترفي الغيبيات (العرافين والسحرة..)مستشرفا  لمدى تحقق مطامحهم السياسية المستقبلية و معينا لهم على تحقيقها،وهنا يسقط _باعتراف شباط _ وصف “مناضل القرب” الى “مناضل الرؤيا”  لأنه استقوى بالغيبيات على حساب التوقعات العلمية الدقيقة  المطلوب توفرها في رجل السياسة في الزمن الحاضر.

مشاركة